"مدى مصر": الشجاعة الاستثنائية

شادي لويس

الثلاثاء 2019/11/26
لا حاجة للقول بأن الحملات القمعية التي تمارسها أجهزة الأمن في مصر تتم خارج إطار القانون، ولا أن خرق القواعد الاجرائية وحتى الشكلي منها أصبح ممارسة منهجية ومتعمدة. فأوامر النيابة وتصاريح التفتيش القضائية، أضحت هي الاستثناء، فيما تتم عمليات المداهمة والخطف والاحتجاز بواسطة مجموعات أمنية بملابس مدنية، وأحياناً يكونون ملثمين بلا هويات أو جهات تابعين لها، ويُحتجز المقبوض عليهم في أماكن مجهولة لفترات تصل لشهور في بعض الأحيان، والأسوأ حظاً لا يظهرون أبداً. أضحى ذلك روتينياً ومتوقعاً، بل وبديهياً أيضاً.


لا جديد في أن تقوم أجهزة الأمن باختطاف الناشط القبطي، رامي كامل، بالطريقة نفسها قبل أيام، أو أن يختفي محرر موقع "مدى مصر"، شادي زلط، في ظروف مشابهة، ولا أن يتم اقتحام مكتب الموقع بعدها واحتجاز جميع الحاضرين فيه ومن ثم ترحيل بعضهم إلى جهة غير معلومة، وأن يتم اطلاق سراحهم لاحقاً، ويلقى بزلط على طريق سريع، وهذا كله من دون إخطار قانوني أو مستند رسمي واحد. لا حاجة للقول مرة أخرى بأن النظام نبذ فكرة القانون بالكامل، بما فيها النسخة الصورية، لصالح نموذج إرهاب الدولة. لا يبقى بعد الوصول إلى تلك العتبة، وتخطيها، سوى حصر الضحايا وتوثيق الانتهاكات.

ولا حاجة أيضاً للقول بأن النظام المصري لا يسمح بالحد الأدني من حرية التعبير. ففي أسبوع واحد، شن حملة قمعية استهدفت مجرد رفع علم فلسطين في مدرج لكرة القدم، وبعدها ناشطاً معنياً بملف الاقباط. ولا ضرورة لإعادة الحديث عن أن النظام أخرس الإعلام بالكامل، وأنه حين تشير وسائل إعلام غربية إلى موقع "مدى مصر" بأنه المنصة المستقلة الوحيدة الباقية فإنها لا تبالغ ولا تبتعد كثيراً عن الحقيقة. ونضيف أن هذه المنصة الوحيدة، محجوبة من الإنترنت من قبل جهة مجهولة ومن دون سند قانوني ندرك قتامة الوضع.

وهذه هي المعضلة الأكبر التي تواجهها محاولة الكتابة عن مصر أو صناعة خبر عنها، فما الذي يمكن إضافته إلي ما نعرفه بالفعل؟ وفي ظل حجب شبه كامل للمعلومات وترويع مستمر للعاملين في مجال الإعلام والبحث؟ ومن هنا تحديداً تأتي استثنائية "مدى مصر"، ليس لأنه واحد من المواقع القليلة جداً التي لاتزال تنتقد النظام من داخل مصر، بل لأنه عبر عمل صحافي استقصائي دؤوب وشجاع وفي غاية الاحترافية، حافظ على إمكانية الكلام عن مصر وصناعة الأخبار من داخلها.

ربطت وسائل الإعلام بين التقرير الذي نشره الموقع، عن إبعاد محمود السيسي إلي روسيا، وبين الحملة الأخيرة على صحافييه. وربما يكون ذلك صحيحاً. لكن تلك لم تكن الواقعة الأولى التي ينشر فيها الموقع تقريراً يعتمد على مصادر مطلعة من داخل النظام، ويتعلق بموضوعات في غاية الحساسية. فمن تقرير صدر في 2015 عن تفاصيل محاكمة عسكرية لضباط متهمين بتدبير إنقلاب، وفي العام التالي تقرير تفصيلي عن طريقة انتخاب البرلمان الحالي والأجهزة التي وقفت وراءه، إلى الكشف في 2018 عن قيام شركات مملوكة للمخابرات بشراء الغاز الإسرائيلي من وراء الستار، فإن "مدى مصر" تجاوز مجرد نقد النظام بينما صمت الآخرين، أو إعلاء سقف هذا النقد. بل قدم نموذجاً مُلهِماً للعمل الصحافي شديد الاحترافية والاستثنائي في شجاعته في ظروف في غاية الخطورة.

أثارت الهجمة الأمنية على "مدى مصر"، موجة واسعة من الانتقادات في وسائل الإعلام الغربية، وأكدت من دون قصد على مصداقية تقرير الموقع عن نجل السيسي، فشله وإمكانية إبعاده، فتحول معه مادةً إعلامية ثرية للإعلام في الخارج وموضوعاً للسخرية في الداخل بشكل غير مسبوق. وجاء الإفراج عن أعضاء فريق الموقع في اليوم ذاته، كعلامة تخبط من النظام، لتتحول هجمة بقصد الترويع، إلى دلالة نادرة على التردد، بل وربما الضعف. لكن، والأهم، أن ما جرى في اليومين الماضيين، يؤكد مرة أخرى، بأن مواجهة نظام قمعي تظل ممكنة عبر الشجاعة الاستثنائية لعدد من الأفراد، وايمانهم ببساطة بمهنتهم وتمسكهم بالقيام بها واستعدادهم لدفع الثمن.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024