هل بدأت واشنطن تحسب خسائرها الايرانية

حسن فحص

الأحد 2020/07/26
يقول المثل اللبناني "عم حاكيكي يا جارة تا تسمعي يا كنه ". الجارة هنا هي الصين وروسيا والعراق، اما الكنة فهي كل من امريكا والترويكا الاوروبية والهند وكوريا مجتمعة. اما الكلام فهو الاتفاقيات الثنائية الاستراتيجية في المجالات الاقتصادية والاستثمارية والتجارية وحتى العسكرية - التسليحية. 

اما لماذا حسمت طهران خياراتها وذهبت الى هذه الشراكات الاستراتيجية في المجال الاقتصادي، فيمكن تلمسه من الكلام الذي صدر عن الرئيس الامريكي دونالد ترمب في الخطاب الذي ألقاه من البيت الابيض عام 2017 وأعلن فيه استراتيجيته في التعامل مع ايران قبل ان يعلن في العام التالي الانسحاب من الاتفاق النووي والعودة الى فرض العقوبات، عندما اعتبر الاتفاق غير متوازن ولا يصب في مصلحة الولايات المتحدة، انطلاقا من فهمه لطبيعة الاتفاقيات التي من المفترض ان تعقدها واشنطن مع الدول الاخرى، والتي يجب ان تعود على الاقتصاد الامريكي بالنفع وتؤمن مصالحه، اذ اعتبر ان هذا الاتفاق لم يوفر اي فرصة عمل او يمنح الشركات الامريكية اي مشروع استثماري في ايران في حين حصل الاخرون (روسيا والصين واوروبا- توتال الفرنسية وآني الايطالية والشركات الالمانية) على كل الاستثمارات والمشاريع. وهو موقف لا يقتصر من وجهة نظر ترمب فقط على الاتفاق مع ايران، فهو انسحب من العديد من الاتفاقيات البينية والدولية لانها تكلف الخزينة الامريكية ولا توفر مصالحها الاستراتيجية، واعاد فرض اتفاقيات جديدة مع بعض الدول كانت كفتها اكثر ميلانا لصالح واشنطن ( اتفاقية نفتا مع كندا والمكسيك...). 

في المفاوضات التي خاضها الجانب الايراني مع الترويكا الأوروبية او مع مجموعة 4+1 الباقية من الدول الراعية للاتفاق النووي بعد اعلان واشنطن الانسحاب منه، لم يتردد وزير الخارجية الايرانية محمد جواد ظريف او مساعده والعضو الابرز في المفاوضات عباس عراقتشي في تقديم العديد من المخارج للازمة المستجدة بحثا عن حل لا يجبر ايران للعودة الى طاولة التفاوض والقبول باتفاقية جديدة، ولا يفرض التراجع على ادارة ترمب، ولعل ابرزها كان الحديث عن تنازل ايراني يتعلق بادخال تغيير على موقف النظام من عدم منح الشركات الامريكية امكانية دخول سوق الاستثمارات الايرانية، اضافة الى البدء في بحث امكانية عودة العلاقات المباشرة بين الطرفين بعد قطيعة استمرت لاربعة عقود. 

ادارة الرئيس حسن روحاني، وعلى العكس من التيار الرافض او المتوجس من اي انفتاح على العلاقة مع الولايات المتحدة الامريكية من دون تكريس تفاهمات مسبقة لا تقتصر على البعد الاقتصادي والاجراءات الامريكية العقابية، لم يترك فرصة لاقناع قيادة النظام بضرورة اللجوء الى سياسة براغماتية في التعامل مع ادارة ترمب، وامكانية استغلال الجهود الدولية، تحديدا الفرنسية واليابانية، للجلوس مع الجانب الامريكي من دون التخلي عن الشروط الايرانية بالغاء جميع العقوبات والعودة الى الاتفاق. الا ان هذه المساعي لروحاني اصطدمت بالسقف العالي لادارة ترمب التي لم تمنح روحاني اي امكانية للدفاع عن رؤيته او سياسته، ودفعت قيادة النظام لمزيد من التشدد في رفض اي وساطة او حوار، خصوصا وان هذه الادارة انتقلت من مطلب "تغيير سلوك النظام" الى خيار "تغيير النظام" واعلنت وقوفها الى جانب المعارضة الايرانية في الخارج بشكل غير مسبوق، بما يقوض كل التفاهمات البينية التي جرت مع ادارة الرئيس السابق باراك اوباما وانتهت الى اخراج هذه الجماعات من العراق وتوزيعها على العواصم الاوروبية. 

وانطلاقا من احساس النظام في طهران بان العقوبات الاقتصادية باتت تشكل تهديدا وجوديا له، بعد سلسلة من الاضطرابات والازمات الدورية (2017 و2018 و2019) التي وجدت ترجمتها بالمواجهات في الشارع بين القوات الامنية والمتظاهرين الذين خرجوا مطالبين بحقوقهم الأساسية، وانهيار قيمة العملة الوطنية الى مستويات غير مسبوقة، والتي شكلت عامل ضغط اضافي الى جانب الآثار السلبية الكبيرة لجائحة كورونا، انطلاقا كل هذه المعطيات، وفي ظل عدم امكانية فتح كوة في جدار التصلب الامريكي ومطالبه التي اشترطها مقابل تخفيف العقوبات، يبدو ان قيادة النظام و"غرفة" القرار الاستراتيجي، ومعها روحاني هذه المرة، قررت الذهاب الى خيار الاستغناء عن الشراكة الاقتصادية مع الغرب عموما والاتحاد الاوروبي خصوصا، بعد عجز هذه الدول وترويكا الاوروبية تحديدا في الوفاء بالتزاماتها الاقتصادية والتعهدات التي قدمتها في الاتفاق النووي. وان تتوجه "شرقا" وتعتمد خيار بناء شراكات استراتيجية على جميع المستويات مع كل من الصين وروسيا من خلال اتفاقية استراتيجية للتعاون الاقتصادي مع بكين من جهة لمدة 25 سنة، وتمديد الاتفاقية الاستراتيجية مع موسكو لتصبح مدتها 25 سنة بدلا عن 20 سنة، وتشمل فتح باب الاستثمارات على جميع الصعد في الصناعات الثقيلة والخفيفة والبنى التحتية والنفطية والغاز بحيث يتم ربط ايران بمشروع طريق الحرير الجديد (حزام واحد طريق واحد) من خلال الربط بين ميناء تشابهار الايراني على مضيق هرمز وميناء غوادر في مجال سكك الحديد وهو المشروع الذي بدأ تنفيذه ايرانيا في عهد الرئيس محمد خاتمي والذي هدف في مرحلته الاولى الى ربط شرق ايران بدول آسيا الوسطى وتحديدا تركمنستان. 

هذه الاتفاقيات التي وضعت على نار حامية، دفعت الكثير من الدول بالتعجيل في اعادة تسخين وتحريك قنوات تواصلها مع طهران بهدف الاحتفاظ بالاستثمارات السابقة او الحصول على استثمارات جديدة، اذ وحسب اوساط دبلوماسية ايرانية مواكبة، ارتفعت في الاسابيع الاخيرة وتيرة الاتصالات الهندية والاوروبية مع طهران لبحث امكانية العودة لتفعيل العمل في مشاريع تم تعليقها بسبب العقوبات الامريكية او الحصول على حصة الى جانب الشريكين الصيني والروسي. وتضيف هذه الأوساط ان الجانب الهندي ابدى استعداده لتسريع العمل المتوقف أساسا في ميناء تشابهار وبحث آلية مالية تسمح لنيودلهي بتحويل الاموال الايرانية المجمدة بسبب العقوبات والتي تصل الى نحو 30 مليار دولار، هذا اضافة الى ابداء كوريا الجنوبية اشارات ايجابية لتحرير نحو 7 مليار دولار من الاموال المجمدة، فضلا عن اتصالات بدأتها كل من شركتي توتال الفرنسية وآني الايطالية التي تتشارك مع كوريا الجنوبية في تطوير حقول الغاز الإيرانية في منطقة عسلويه على الخليج. في وقت ابدت الترويكا الاوروبية رغبتها في العودة لبحث تفعيل آلية "انستكس" للتعامل المالي التي اقرتها مع ايران قبل اكثر من سنة.

يبدو ان هذه التطورات تحولت الى تحدٍ واضح للادارة الامريكية وجهود محاصرة النظام الايراني على ابواب الانتخابات الرئاسية، وامكانية ان تؤدي الى انهيار نظام العقوبات، وبالتالي فشل استراتيجية الادارة الامريكية في فرض رؤيتها لحل ازمات الشرق الاوسط التي تقوم على تقليم اظافر ايران وأذرعها في المنطقة وتفكيك برنامجها الصاروخي واجبارها على التوقيع على اتفاق نووي جديد، فضلا عن امكانية ان تشكل لها احراجا على الساحة العراقية واستهداف وجود قواتها هناك من بوابة الانتقام لاغتيال الجنرال قاسم سليماني، وهي مخاوف يبدو ايضا انها سرت الى القيادة الاسرائيلية، من هنا تعتقد الاوساط الدبلوماسية الايرانية ان الغارة الاسرائيلية على مواقع لحرس الثورة وحزب الله بالقرب من دمشق، والتحرش بالطائرة المدنية الايرانية لخطوط ماهان التابعة لحرس الثورة تهدف لاستفزاز محور ايران – حزب الله وجره الى دائرة الرد في محاولة لخلط الاوراق وفتح جبهة تسمح بتوجيه ضربة لكلا الطرفين، لذلك فان هذه الاوساط ترجح عدم استجابة طهران وبيروت لهذه الاستفزازات بانتظار ما ستسفر عنه المرحلة المقبلة من تطورات ونتائج تسمح لها بالبناء على مقتضياتها. 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024