لغز الشتيمة

محمد خير

الأحد 2017/06/11
في فيلمها "الخيط الرفيع"، كسرت فاتن حمامة "التابو" الذي كان يقيّد الألفاظ "المسيئة" في الشاشات المصرية، حين صرخت وهي تصفع "المهندس عادل" (محمود ياسين) قائلة: "يا ابن الكلب!".

لم تكن السينما المصرية –ولا التلفزيون بالطبع- قد جرؤت حتى ذلك التوقيت (سنة 1971) على استخدام لفظ "بذيء" إلى هذا الحد. كانت مصر ما زالت تغادر مجتمع الستينيات "الراقي"، مجتمع سعاد حسني وشادية، رشدي أباظة وأحمد رمزي وعمر الشريف، مجتمع الفساتين القصيرة في الشوارع بلا لفظة تحرش، والمشي على الكورنيش بلا زحام أو مغازلات فجّة. ورغم أنه من غير المتصور أن المجتمع كان فعلاً بلا "بذاءات"، إلا أن تلك كانت على الأقل هي صورة المجتمع عن نفسه، في السينما كما في الأدب، كما في ذكريات شبّان هذا الزمان. كانت السبّة التي وجهتها فاتن حمامة إلى محمود ياسين في الفيلم، نقلة درامية على مستوى الألفاظ، مهّدت لعصر السبعينيات "الفجّ"، عصر الانفتاح و"الكباريهات" والغناء "الهابط". وهو عصر، سرعان ما بدت أمامه عبارة "يا ابن الكلب" لفظة بريئة، أقرب إلى الممازحة بين الأصحاب، منها إلى السباب والغضب.

لكن الرقابة التي بالكاد احتملت "يا ابن الكلب" من "سيدة الشاشة العربية"، لم تتحمل في ما بعد ما هو "أقذع". تطورت الشتائم وازداد الهبوط في الشارع واللغة الشعبية، لكن حدود الرقابة ظلت عند "كلب فاتن". اليوم لا يجرؤ شخص في الشارع أن يستخدم "يا ابن الكلب" كشتيمة وإلا أثار ضحك الآخرين. لكن على شاشة التلفاز، لا سيما في دراما رمضان، ظلت تلك اللفظة هي أقصى ما يمكن استعماله. قد يكون المشهد غارقاً في الدم بين تجار مخدرات وعصابات إجرامية، قد تكون الجثث في كل مكان، لكن أقصى لفظة يمكن استخدامها وسط كل ذلك الشرّ، هي "يا ابن الكلب"، فيبتسم المشاهد رغماً عنه. أما الآن، أو بدءاً من 15 يونيو/حزيران الجاري، فعلى المشاهد مهمة أكثر أهمية من مجرد متابعة التلفاز. عليه الآن أن يقوم بالإبلاغ عن الألفاظ "المسيئة"، مع مكافأة مغرية.

بدأت "المهمة" يوم الأربعاء الماضي السابع من يونيو/حزيران، حين قرر "المجلس الأعلى للإعلام"، المؤسس في مصر حديثاً، توقيع غرامة مالية قدرها 200 ألف جنيه مصري (حوالى 11 ألف دولار أميركي)، على كل قناة فضائية، و100 ألف جنيه على الإذاعات، على كل "لفظ مسيء" يتم نشره عبر إحدى هذه الوسائل، على أن يتم سحب ترخيص الوسيلة الإعلامية التي تتكرر من خلالها الإساءات ولم تلتزم بالعقوبة خلال 6 شهور، وتعاد إجراءات الترخيص من جديد، ويتم تطبيق القرار بدءاً من 15 يونيو/حزيران الجاري.

لكن كيف يمكن للمجلس الأعلى للإعلام، أن يتابع كل هذه القنوات والإذاعات، كل هذه البرامج والأعمال واللقاءات؟ هنا يأتي دور المشاهد.

على طريقة "اللقيّة"، التي تمنح من يعثر على شيء ثمين أو مبلغ مالي، ما نسبته 10% من قيمة الشيء الذي عثر عليه، قرر المجلس الأعلى للإعلام تطبيق القاعدة نفسها: سيمنح المشاهد الذي "يعثر" على "لفظة مسيئة" في قناة تلفزيونية أو إذاعية، نسبة 10% من قيمة الغرامة الموقعة على القناة. هكذا يصبح المشاهد نفسه جزءاً من منظومة الإبلاغ والعقاب، مشاركة في "ثمرتها"، فهل يمكن أن يتصور جورج أورويل منظومة أفضل؟

غير أن قرار المجلس الأعلى للإعلام لم يحدد بعد عدداً من أهم النقاط، على رأسها: ماذا لو أبلغ 1000 مشاهد أو أكثر عن اللفظة المسيئة نفسها؟ هل سيقتسمون المبلغ على طريقة اللوتري؟ وماذا لو قرر المشاهد أن الألفاظ الغربية –على سبيل المثال- ألفاظ مسيئة له ولثقافته؟ ماذا عن "الإيحاءات" والإحالات و"الإفيهات" التي تترك المشاهد يكمل ما بين السطور؟ هل تقع عليها الغرامة نفسها؟ أم بعضاً منها؟ ثم ما طبيعة اللفظ المسيء؟ أهو البذيء "أخلاقيا"؟ أم سياسياً؟ أم دينياً؟ ماذا عن ألفاظ شيوعية أو تكفيرية أو إلحادية؟ ماذا عن ألفاظ جنسية لكن يستخدمها زوجان في العمل الفني؟ أتبقى "مسيئة"؟

للإجابة على كل تلك الأسئلة، أراح مجلس الإعلام نفسه بعبارة واحدة "المجلس هو المنوط بتحديد اللفظ المسيء الذي يتم تطبيق العقوبة بشأنه على الوسائل الإعلامية"، إنه الخصم والحكم. أما عن حصيلة الغرامات، بعد توزيع نسبة الـ10% على المبلغين، فـ"سيتم تخصيصها لدعم الأعمال الإبداعية للإعلاميين"، أعمال ينبغي أن تكون "نظيفة" بالطبع، بلا "ألفاظ" تزعج المجلس ورئيسه مكرم محمد أحمد، وهو رجل في الثانية والثمانين من العمر، اختير ليخطط مستقبل الإعلام.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024