"صهر قوي" في دمشق

مهند الحاج علي

الإثنين 2019/10/14
لا يملك لبنان مقومات القوة، لكن فيه رئيساً "قوياً"، بما يكفي لتجاوز أي أزمة. هكذا يُقال لنا، ومن المطلوب أن نُصدق.

البلد اقتصادياً ضعيف، لا بل يُنازع مالياً. الدين العام يقترب من أرقام قياسية، نسبة للإقتصاد حيث النمو صفري، لا بل يتجه نحو السالب نتيجة الأزمات السياسية المتلاحقة ودور لبنان في الصراعات الاقليمية الكبرى.

والفساد قصة أخرى لا تنتهي فصولها، فلا الهيئات الرقابية فاعلة باعتراف رؤسائها، ولا القضاء يُلاحق المرتكبين. يخسر البلد أكثر من ملياري دولار سنوياً نتيجة الفساد الذي يطال كل مناحي الحياة في هذا البلد، من تهريب البضائع الى الرشى. ذلك أن الكهرباء قطاع مربح لدول كثيرة في هذا العالم، إلا لبنان طبعاً حيث يُكلفنا مليار دولار سنوياً نتيجة الفساد والتقصير الحكومي المتواصل منذ 3 عقود. 

ولبنان أيضاً ضعيف اليوم لأن العقوبات الأميركية ضد "حزب الله" والمتعاونين معه تتواصل بلا هوادة، وطالت مصرفاً كاملاً في آخر دفعة لها. العقوبات متواصلة والأرجح أنها ستتسع لتشمل حلفاء للتنظيم أو متعاونين معه من خارج الطائفة الشيعية.

وفي لبنان أيضاً، خلق الطلب على الدولار وغياب تدخل مصرف لبنان، سعرين للصرف، رسمي محدود، وغير رسمي لعامة الناس. أول الآثار طالت مادتي الوقود والقمح الأساسيتين، إذ يريد كارتيل المستوردين، وهم حكماً من المرتبطين بكارتيل السياسيين، أن يبيعوا هذه المادة بالدولار لمن يقبض بالليرة من المستهلك. وهذه فجوة في سعر الصرف ستتسرب الى المواطن، عاجلاً أم آجلاً. في حال فشلت السلطة السياسية في ايجاد حل لهذه الأزمة، سنشهد ارتفاعاً في الأسعار، وتقلصاً في القدرة الشرائية.

لكن على اللبنانيين تناسي كل هذا الضعف والوهن في اقتصاد البلد وسياسته، يُقال لنا، والالتفات إلى أن هناك رئيساً قوياً للمرة الأولى منذ الحرب الأهلية. ذلك أن أركان العهد في السلطة يرون أن الأزمة الحالية مفتعلة، ويُحاولون تصديرها لأزمة مع الخارج. بالأمس، أعاد بيار رفول مستشار رئيس الجمهورية، سبب الأزمة الاقتصاديّة الحاصلة، إلى "أنهم يريدون تمرير ​صفقة القرن​ وإحداث بلبلة في لبنان، فوجدوا أنّه لا يمكنهم القيام بمشكلة في الأمن لأنّه ممسوك، ولا يمكن السماح ل​إسرائيل​ بأن تسرح وتمرح من دون أي رد. كما أنّهم هددّوا الرئيس عون بالعقوبات الاقتصادية ولم ينجحوا". باختصار، هناك "قوى خفية" تريد تمرير الصفقة في لبنان، وحاولت ذلك عبر الضغط على الرئيس اللبناني، لكنها فشلت في مهمتها، فلجأت إلى افتعال أزمة الدولار. لكن هذه المهمة غير ممكنة من دون مساعدة محلية، وفقاً للرواية العونية. من هنا كان تساؤل رفول عن توقيت "اللعب بالدولار" خلال زيارة عون إلى نيويورك، و"لماذا لم يدعُ رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ إلى اجتماع أو إلى ضخّ الدولار في الأسواق؟".

منطق الضحية هنا لا ينسحب على اجتراح السياسة عند العونيين. اتهام الآخر بالتآمر لا يحيل الزعامة العونية إلى مفعول به، إذ يتناقض ذلك مع مفهوم "الرئيس القوي". والخطورة هنا تكمن في القراءة السياسية لحدث اقتصادي بحت. لا شك أن العقوبات الأميركية سرّعت بالانهيار المالي اللبناني، لكن الجميع كانوا يتوقعونه، وسلوك الإنكار لدى الطبقة السياسية، كان صادماً، سيما في ظل التناحر الضيق الأفق (أزمة قبرشمون مثالاً).

كما جاء على لسان وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل، وأكثر من مسؤول عوني ومن "حزب الله"، إن للمرحلة المقبلة عنوانين أساسيين. الأول هو اللاجئون، واستخدامهم على مستوى الرد ضد "المؤامرة الدولية" المزعومة على لبنان، وأيضاً في سبيل الضغط على الممول الأوروبي المتلكئ في التزامات "سيدر". ولا بد أن نرى خطوات عملية في هذا الاتجاه، ربما بالتنسيق مع النظام السوري، إما على شكل عمليات ترحيل قسرية، أو اجراءات ملاحقة وتضييق على المقيمين في لبنان، تماماً كما حصل مع اللاجئين الفلسطينيين. قد يكون للتلويح بالنزول إلى الشارع والفوضى المنظمة، دور في ذلك أيضاً، كما حصل في اعتداءات بأكثر من منطقة حدودية.

العنوان الثاني هو نقل العلاقات مع النظام السوري، إلى مستوى جديد على الصعيد الرسمي، بحيث يلعب لبنان دوراً محورياً في عودة النظام اقليمياً، وربما انقاذه اقتصادياً. وهذا واضح في الخطاب السياسي العوني والحزب اللهي، ومما تسرب عن اللقاء بين باسيل والأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصر الله. 

هذا هو الرد المتوقع لـ"الرئيس القوي". وهي قوة فائضة في أنها ستأتي على ظهر اللاجئ السوري الضعيف، وبالتعاون والتنسيق  مع طرف قوي (لا يحتاج إلى اثبات قوته أو إبرازها)، هو "حزب الله"، ومعه النظام السوري القوي بحلفائه وبوكالتهم. 

وهذه سياسة عونية بالنكاية، تُسيّر بجزرة طموح الرئاسة، وتُقابلها أهداف واستراتيجية واضحة تُعزز الدور السوري-الإيراني. 

تبدو "الحلول" اليوم أكثر سوءاً من المشكلات البنيوية المطلوب علاجها بإصلاحات قاسية. أليس غريباً أن الأبواب تُفتح أمام دمشق، شمالاً وغرباً، وتُقفل في بيروت؟

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024