الصهر اللاصق

مهند الحاج علي

الإثنين 2019/11/04
استهداف وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل في شعارات المتظاهرين، أكثر من غيره من السياسيين والورثة، وقع لأن لدى الرجل سمة لا يملكها سواه: هو لاصق. مثل الصمغ الممتاز، يستخدمه المرء ويقيم على أنامله ويديه أياماً بل أسابيع مهما تجنبه وحاول غسله أو حفه ولو بسكين. جبران باسيل هكذا. يهتف عشرات الألوف ضده في بيروت وطرابلس والنبطية وصور وصيدا والبترون وجل الديب، ثم يخرج ليقول إن مكانه معهم في الشارع، ومطالبهم هي مطالبه. هو حمل هذه المطالب قبل هذه الجماهير الغاضبة، بل سبقهم في ذلك بعشرات السنوات، وواجه غضب الطبقة السياسية قبلهم. ثم يعود عشرات الآلاف إلى الشارع ليشتموه ويُفرغوا كل ما في جعبتهم من هتافات وأناشيد ضده. لا يغيب باسيل طويلاً، بل يخرج في فيديو سيء الإخراج ليقول فيه إنه رفع السرية المصرفية عن حساباته. ثم يحشد تظاهرة ويخطب فيها وكأنه انتصر للتو في معركة تاريخية، يتحدث عن أنهار بشرية، ويؤكد أن أقلية بين المتظاهرين ظلمته. أقلية؟

تسقط الحكومة على وقع هتافات الشارع، ولا يلبث أن يعود اسمه متداولاً لتسلم حقيبة هنا أم هناك. الحقيقة أن فعل "يبقى" فقد مفعوله في التحدث عن الرجل. جبران باسيل لاصق من الصنف الممتاز. هو يلتصق بالسلطة ولا يفارقها، لأنها حق موروث. هذا منصب عمّه، وقد ورثه بجهد جهيد ومعارك متواصلة داخل العائلة، أطاح فيها بعديله النائب المغوار شامل روكز، وحاصر ميراي عون المستشارة الرئاسية الخاصة والإبنة المدللة للجنرال. وعلينا نحن أن ندفع ثمن هذا الانتصار المديد.

بإمكان زعيم "المستقبل" سعد الحريري أن يستقيل ويتوارى عن الأنظار لسنوات في أوروبا والسعودية. زعيم حركة "أمل" نبيه بري لا يحب الظهور بالإعلام كثيراً، والأمين العام لحزب الله حسن نصر الله يحصر إطلالاته بالمناسبات رغم أنها كثيرة هذه الأيام. وليد جنبلاط يُغرد. لكن باسيل دون ظهور إعلامي وخطابات مثل السمكة خارج الماء. الرجل بقي حديث البلد طيلة السنوات الماضية، بالكاد لا يمر يوم دون أن يظهر على شاشة أو نشرة أخبار. الرجل ملتصق بالسلطة وبشاشاتنا أيضاً، لا يفارقنا لحظة مثل زائر ثقيل ننتظر بأدب مغادرته المنزل، لكنه يبقى حتى يُخرجنا من طورنا ونشتم ونصرخ. ارحمنا يا رجل! بربك ارحمنا.

جبران باسيل لا يسمع الناس ولا يريد أن يفهمهم. هو يُعبر عنهم تلقائياً، ولا حاجة لأن يتحدثوا أو يسمعهم. لكن نحن، وعلى عكسه، علينا أن نراه على شاشاتنا، وأن نشاهده يومياً بلا كلل أو ملل تماماً مثل تلفزيون الواقع، طبعاً دون تسلية أو فكاهة أو جمال وجاذبية. حتى يُسافر الى أبعد بقاع الأرض، كندا وأستراليا وساحل العاج وجامايكا، علينا أن نُشاهده ونسمعه. يُصارع المجتمع الدولي والعربي ومن ثم يحيي هياكل الحرب، فيقبع في شاشاتنا ويومياتنا، ولا يتعب. هو ليس ماكينة عمل كما يسميه انصاره، بل قُوة لاصقة تُخرجك من طورك في دقائق معدودة.

حتى عندما يتحدث، يهبط علينا من فوق. في كلماته، دائماً يعتلي المنابر وخشبات المسارح ويرفع ذقنه وحاجبيه ويرخي رأسه ككاميرا مراقبة. من الصعب أن تراه بين الناس، يحمل مذياعاً ويسير فيه. غالباً يأتيهم صوته من أعلى. لا يذكر اسماً في خطاباته، وهي من عادات السياسيين حين يحاولون الظهور كواحد من جمهور يريدون استمالته. جبران لا يريد ذلك، يرفضه، تماماً كمن ورث عرشاً مطلقاً، وعلى الناس أن يسيروا خلفه دون أسئلة أو شكوى.

لكنه مظلوم في استهدافه دون الآخرين. جبران جديد في هذه الطبقة السياسية، وهناك زعماء كبار من كل الطوائف تورطوا في نهب المال العام وأياديهم ملطخة بالدماء، ومن المطلوب محاكمتهم أو حتى ابدالهم بوجوه جديد. لكن حتى تُركز ثورة اللبنانيين على كل خصومها في الحكم، وتعدل في كراهيتهم، نحتاج إلى استراحة محارب من هذا الصُهر اللاصق، على أمل أن تدوم وتدوم وتدوم.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024