وداعاً "أونلي مي"

محمد خير

السبت 2019/09/28
قبل سنوات، سرَت نكتة: "الرعب هو أن يضع أحدهم إعجاباً Like، على منشور كتبتَه في فايسبوك وجعلتَه Only me (أي أنك أظهرته لنفسك فقط)".

المزحة القديمة بمقاييس زمن الإنترنت، كانت تصف رعباً كوميدياً. الرعب من شبح غامض يتابع - بل يتفاعل مع - منشور لا يفترض أن غيرك يراه. ولم يَعرف مَن ابتدع النكتة بأن "رعباً أكبر من هذا سوف يجئ"، كما قال يوماً الشاعر صلاح عبد الصبور. رعب ليس كوميدياً هذه المرة، ولا تفلح معه أدوات ضبط الخصوصية في "فايسبوك". فالمشهد الجديد في شوارع القاهرة، المتزامن مع تظاهرات 20 سبتمبر والأيام التي تلتها، هو لمواطنين، شبان غالباً، يُسلِّمون مع أوراق هوياتهم، هواتفهم المحمولة أيضاً، إلى رجال الشرطة، ليطّلعوا عليها، على "الهويّة" الكامنة فيها، والمُعبَّر عنها بالمنشورات والمشاركات والرسائل، وبناء على ما ورد في "التايم لاين" الخاص بهاتف "الموقوف"، يطلق سراحه، أو يُلقى داخل سيارة الشرطة، ومنها إلى المصير المجهول.

حوالى 2000 شخص، اعتُقلوا خلال أقل من أسبوع. اكتظت بنصفهم قاعات النيابات، ولم يظهر النصف الثاني في قاعات التحقيق بعد.. فماذا رأت الشرطة في هواتفهم؟ بعضهم أبناء الصدفة التعسة، وبعضهم أبناء الحظ العاثر، بل بعضهم أبناء العبث: مؤيدون متحمسون للحكومة "راحوا في الرِّجلين" كما يقول المثل، إذ اعتُقلوا رغم منشوراتهم المتحمّسة التي كشفتها حساباتهم المهجورة بعد حبس أصحابها. فبدا وكأن أي "كلام في السياسة"، ولو كان مؤيداً، قد يثير الشك في صاحبه. واقع يذكّر بقصة قديمة نُشرت في صحيفة حكومية مصرية، عن صحافي شاب أراد كسب ودّ رئيس التحرير، فامتدح مقاله الافتتاحي بشدة في اجتماع الصباح، لكنه لم ينل إلا التوبيخ: "مَن أنت لتقول رأيك في مقال الأستاذ؟". هكذا قال له زملاء أقدم منه: "إذا تصوّرت أن من حقك أن تمتدحه اليوم، فقد تعتقد أن من حقك أن تنتقده غداً".

هكذا، اعتُقل حتى المؤيدين للحكومة، أو رافضي التظاهرات. ربما لأن مسرح "التحقيق" على ناصية الطريق، والبحث عن "أدلّة" في الشاشات ومنشورات الحالة (status)، ما زال إجراء جديداً لم يتم ضبطه وإتقانه بعد، ولا تتوافر له مرجعيات في دول العالم الأخرى للاستفادة منها. تلك مشكلة براءات الاختراع، ومشكلة فايسبوكية جديدة لا تحلّها المستويات المتعددة من الخصوصية في الموقع الأزرق، ولا اعتذارات مارك زوكربرغ ووعوده بضمانات قانونية أقوى لحماية بيانات المستخدمين. فرجل الشرطة، في بلادنا، هو القانون.

أما من زاوية الفهم، فيُقال أن أهم العوائق أمام برامج الترجمة الآلية مثلاً، هو أنها لا تستطيع فهم المستويات المتعددة والمتداخلة في النصوص البشرية. لا تفهم التورية والسخرية الكامنة، والاستعارات الثقافية وما بين السطور. فهل يفهم رجل الشرطة دائماً ما يقصده صاحب حساب في "فايسبوك" من كل منشور يكتبه؟ هل يعرف إن كان مؤمناً بما نشره فعلاً، أم ساخراً، أم متنمراً على آخرين؟ وهل يضطر مستخدم "فايسبوك" المصري، من الآن فصاعداً، أن يستضيف الشرطي في عقله وهو يكتب؟ "ماذا لو قابلني حاجز شرطة وقرأ المنشور؟". هكذا صار يسأل نفسه فعلاً. وسيجد الشبان سريعاً، وسائل للتغلب على هذا التضييق الجديد الذي لم يخطر لهم في بال. لكن النتيجة أن آراءهم، بدلاً من أن تخرج إلى مكانها الطبيعي في النور، ستغوص - مضطرة - في الآبار العميقة.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024