حرب إلهية على الشعب

شادي لويس

الثلاثاء 2019/10/15

في الدورة التثقيفية الـ31 للجيش المصري، لا يقول الرئيس السيسي جديداً لم يقله من قبل. يقر هو نفسه بذلك في كلمته، "بنكرر اللي بنقوله"، حين يعود إلى نقطته الأساسية مرة بعد الأخرى وهو يتكلم عن مسألة المياه والعلاقات مع إثيوبيا أو عن "إعادة السيطرة في سيناء"، أو الوضع الإقليمي، وكذا تظاهرات سبتمبر أو دور الإعلام.

لدى الرئيس عدد من التيمات، تظل ثابته في معظم خطبه، إن لم يكن في جميعها، إلى الحد الذي يمكن توقع محتواها مسبقاً، وكأنها كلها خطبة واحدة تضاف إليها تفاصيل وتعديلات طفيفة كل حين وآخر. لكن، مع هذا، فإن الكلمة الأخيرة تبدو جديرة بالالتفات بشكل خاص. فغير إنها الخطبة المطولة الأولى للرئيس منذ اندلاع تظاهرات سبتمبر، فإنها تأتي مواكبة لتصاعد الحملة الأمنية ضد المعارضين، وكذا وصول مفاوضات سد النهضة إلى طريق مسدود، والتدخل العسكري التركي في سوريا. وفي الوقت ذاته، فإن التحولات الثانوية في الخطاب الرئاسي، وإن لم تبدُ جوهرية، لكن متابعتها تظل كاشفة للطريقة التي يفكر بها النظام، وتفسر بعض ممارساته.

في سياق حديثه عن سد النهضة، يشير السيسي إلى ثورة يناير بوصفها السبب وراء الأزمة الحالية، فحينها "البلد كشفت ضهرها وعرّت كتفها"، ولولا ذلك لكانت الدولة قادرة على الوصول إلى "اتفاق قوي وسهل" مع أثيوبيا. يلوم الرئيس، الإعلام، على مبالغته في توصيف الوضع الآن، ويكشف متابعته بشكل شخصي للنقاش في وسائل التواصل الاجتماعي بخصوص القضية، ويطلب من روادها "عدم المبالغة في ردود الأفعال". يطرح الرئيس خطاباً معتدلاً، هادئاً ومتماسكاً بخصوص المفاوضات مع الإثيوبيين، الذين يصفهم بالأشقاء، ويعيد كلمات "الحوار" و"الاعتدال" و"التفاوض" و"الوساطة" و"الاتزان" و"التفاؤل" بل و"السعادة" أيضاً، حين يتحدث عن العلاقات معهم. يؤكد أيضاً إن الأمر حتماً سينتهي بطريقة مُرضِية، والدولة بدأت بالفعل في خطة طويلة المدى للتوسع في الاعتماد على تحلية مياه البحر.

لا خطر داهماً إذاً. لكن السيسي ينتهز الفرصة للتأكيد على مرجعيته المركزية مرة أخرى. فكل التحديات الداخلية والمخاطر الخارجية يمكن مواجهتها، لكن الخطر الأكبر هم المصريون أنفسهم. "هتاكلوا بلدكم"، "يخرج المصريين ضد دولتهم"، "الكتلة الكبيرة (من الشعب) لو اتحركت ضاعت البلد"، هذا هو العدو الحقيقي، "أي تحدي تاني سهل". ويحذر بوضوح من التبعات: "لو ما خدتوش بالكم هيتعمل فيكم أكتر من كده". وتأتي توصيات الرئيس محفوظة "الوحدة والصمود"، لكن الوحدة تأخذ تعريفاً خاصاً هنا: "لا تمس أي من مؤسسات الدولة، من أول الرئاسة إلى أصغر مؤسسة". وبالإضافة إلى الدولة، فالسيسي يعيد التأكيد على مفهومه عن الوطن ككيان متجاوز وغير محدد تتم التضحية في سبيله بأي شيء آخر: "كله يزول، كلنا نزول، إلا مصر".

حين يتحول الحديث إلى الاجتياح العسكري التركي للحدود السورية، يسأل الرئيس الحضور: "مين اللي عمل كده في سوريا؟"، فيجيبه البعض بعبارات يصعب سماعها، ويرد هو: "أهلها". هكذا تتجمع خيوط الكوارث المحلية والإقليمية عند نقطة واحدة، "الشعب" بوصفه الجاني الرئيسي، أو العدو المباشر في "حروب الجيل الرابع" واستراتيجية "الانتصار بلا قتال". وفي هذا السياق، يخص الرئيس "التليفون" بقسم وافر من حديثه هذه المرة، وفي موضعين. فكل تليفون يحمل الكافي من البيانات عن "كل خصائص شخصية" صاحبه، وميوله، ويسمح للقوى الخارجية بتصنيف الأفراد إلى "شرائح" مفصلة، والتعامل معها بحسب خصائصها في سبيل "إشعال الموقف". وفي موضع آخر من الحديث، يؤكد السيسي على ضرورة التوعية، ويلوم الآباء لأنهم يعطون التليفونات لأطفالهم ليتوقفوا عن الضوضاء أو ليأكلوا، وبذلك ينمو "الطفل منعزلاً"، وعرضة لمحتوى مواقع التواصل الاجتماعي، الذي يصفه الرئيس بأنه غير صحيح في معظمه. ويبدو هذا كله وثيق الصلة بحملة الأمن الجارية لتفتيش الهواتف المحمولة في الشوارع والميادين، واعتقال المارة بناء على محتواها، وكذا وقائع تعذيب الموقوفين للاعتراف بكلمة السر لفتحها. ولا يقف الأمر هنا، فالرئيس يطَمئن الحضور بأن الدولة تبني عقلاً مركزياً ضخماً في العاصمة الإدارية الجديدة، يحوي بيانات، لا عن الدولة ومؤسساتها فقط، بل عن كل شيء، وستُزوَّد شبكة البيانات تلك بذكاء اصطناعي لإدارتها، وتقليل دور العامل البشري فيها.

وحين يصل الرئيس إلى مسألة الإرهاب في سيناء، فإنه يربطها بالتظاهرات بشكل مباشر غير مسبوق. فبحسبه، توقفت العمليات الإرهابية بالكامل لإتاحة الفرصة لاندلاع المظاهرات الأخيرة، وحين فشل مخطط إشعال الاحتجاجات مع عودته من نيويورك، ضرب الإرهاب مرة أخرى. فالتنسيق بين الحدثين، لا يوحي فقط بأن هناك مخططاً متعدد المستويات، بل بشكل ضمني يصنف الإرهاب والتظاهرات في خانة واحد، بل ويجعل للتظاهرات الأولوية في مؤامرة زعزعة الدولة، وبالتبعية يضع المتظاهرين على قدم المساواة مع الجماعات المسلحة، وربما يذهب إلى حد تصورهم كتهديد أخطر.

لكن الرئيس في النهاية يطَمئن جمهوره: "احنا كويسين قوي" و"مطمنين قوي". ففي مواجهة العدو، يقف الجيش، الذي يمدح ترتيبه المتقدم بين جيوش العالم، والأهم لأنه ليس هناك من يقدر على "أن يخدع ربنا" فهو "المطلع على النوايا"، ومرة أخرى هو من سيحاسبه شخصياً، ولا أحد آخر بالطبع. يخوض الرئيس معركة ربانية في سبيل مصر، التي "تجلي فيها" الله لموسى، دون غيرها، والأداة الإلهية في تلك الحرب هي القوات المسلحة، عدوها هو الشعب، والسلاح الذي تواجهه هو الهواتف المحمولة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024