الكنيسة القبطية تتوسع!

شادي لويس

الثلاثاء 2017/08/29
قبل أيام، وصل البابا تواضروس إلى طوكيو، لافتتاح أول كنيسة قبطية في اليابان، وهو الأمر الذي وصفته وسائل الإعلام المصرية، نقلاً عن قيادات الكنيسة، بأنه "ضمن خطة الكنيسة للتوسع في أفريقيا وآسيا". لكن، وبالرغم من محدودية ما نعرفه عن تلك الخطة، فإن أخباراً تداولتها وسائل الإعلام المصرية في الفترة الأخيرة تكشف بعض أبعادها. فقبل أسابيع، أعلنت الكنيسة افتتاح كاتدرائية قبطية في مدينة سانتا كروز في بوليفيا. وفي منتصف شهر تموز/يوليو، توجه الأنبا أنطونيوس، أسقف شؤون أفريقيا، إلى كامبالا، لوضع حجر الأساس لمجمع كنسيّ يضم أول كنيسة قبطية في أوغندا، ومستوصفاً طبياً، ومركزاً تعليمياً، ودار سكن للمتطوعين، بالإضافة إلى ملجأ سيكون الأول للكنيسة القبطية في القارة. وفي شباط/فبراير الماضي، قام رئيس توجو، أثناء زيارته للقاهرة، بزيارة البابا، وسلّمه عقد تأسيس أول كنيسة قبطية في بلاده، بعدما أثني على نشاط القوافل الطبية القبطية هناك. الجدير بالذكر أيضاً، أن البابا تواضروس سيتوجه إلى أستراليا، بعد اليابان، لوضع حجر الأساس لمطرانية قبطية في سيدني، وكنيسة جديدة في كليفال، كما يفتتح مشروعات خدمية، ويزور دير الأنبا شنودة والكلية الإكليريكية القبطية في ماكوراي.

تاريخياً، تمتعت الكنيسة القبطية بحضور خارج الحدود المصرية، امتد من ليبيا في الغرب إلى السودان وإثيوبيا جنوباً، بالإضافة إلى قبرص وممتلكات كنسية في القدس والأماكن المقدسة في فلسطين. لكن، وإن كان ذلك الحضور نتيجة للجوار الجغرافي، فإن نمو الجاليات القبطية في بلاد المهجر، في أوروبا وأميركا الشمالية أولاً، ومن بعدهما أستراليا، وجّه اهتمام الكنيسة، في فترة ولاية البابا كيرلس في الستينات، إلى تأسيس كنائس لخدمة الجاليات القبطية هناك. ومع جلوس البابا شنودة على الكرسي المرقسي، العام 1971، تجاوز طموح الكنيسة مجرد الخدمة الرعوية للجاليات القبطية في الخارج. ففي العام 1976 استحدثت الكنيسة القبطية أسقفية للشؤون الأفريقية، وفي 1979 توجه البابا إلى كينيا وزائير لافتتاح كنائس قبطية في البلدين، وهو الأمر الذي تبعه تأسيس كنائس ومراكز طبية ومؤسسات للخدمة الاجتماعية تابعة لكرسي الإسكندرية في تنزانيا ونيجيريا وكينيا وغانا وساحل العاج وزامبيا وجنوب أفريقيا وزيمبابوي والسودان، بالإضافة إلى قوافل طبية دورية في العديد من دول القارة. لكن طموح البابا شنودة لم ينحصر في أفريقيا ودول المهجر. ففي العام 2006، زار البابا شنودة، البرازيل وبوليفيا، ليضع حجر الأساس لأول كنيستين قبطيتين في أميركا الجنوبية، لينضما إلى كنائس الكرسي المرقسي التي كانت قد تأسست في آسيا، في كوريا وهونغ كونغ وباكستان وسنغافورة وماليزيا وإندونيسيا وتايلاند.

لا يمكن الجزم بدوافع المشروع الكنسي للتوسع في القارات الست، فهناك القليل جداً مما كتب عن الأمر. لكن، إلى جانب الأسباب اللاهوتية، والتي تلبي دعوة الإنجيل إلى نشر البشارة في المسكونة، فإن أسباباً عالمية تبدو أكثر تأثيراً. ففي مقال نشره موقع "الحوار المتمدن" في آذار/مارس2006، بعنوان "الكنيسة القبطية تصل إلى أميركا اللاتينية"، يربط مجدي خليل بين حوادث العنف الطائفي في مصر في السبعينات والتضييق على بناء الكنيسة القبطية في الداخل، بالإضافة إلى تراجع دور الكنيسة القبطية في أفريقيا بعد انفصال كنيسة الحبشة عنها، وبين إدراك البابا شنودة المبكر لدور كنائس الخارج في "دعم الكنيسة والشعب القبطي في الداخل، روحياً وسياسياً ومالياً واجتماعياً ونفسياً". ولذا، وجّه جهوده لتصبح تلك الكنائس "قوة مساندة للكنيسة والشعب في النواحي كافة".

لكن الأمر لا يقتصر على الوضع السياسي الداخلي، أو مبادرات القيادات الكنسية. فاندماج الأجيال اللاحقة من الجاليات القبطية في دول المهجر، وخصوصاً أميركا الشمالية وأستراليا، أفضى إلى تبني كنائسهم للأنشطة التبشيرية والتنموية التي تقوم بها الكنائس البروتستانتية والكاثوليكية المحلية في مواطنهم الجديدة. يبدو ذلك واضحاً في ارتباط التوسع القبطي في آسيا وجنوب المحيط الهادي، والذي وصل إلى تأسيس كنيسة قبطية في فيجي، بالدعم المالي والتطوعي للجاليات القبطية في كل من أستراليا ونيوزلندا، وكذلك في اعتماد التوسع القبطي في المكسيك وأميركا الجنوبية، والذي وصل إلى الكاريبي وفي برمودا والدومينكان وجزر كيتس ونيفيس، على تبرعات أبناء الجاليات القبطية في الولايات المتحدة وكندا، وبعثاتهم التطوعية.

لكن، وإن كانت الكنيسة القبطية وأبناؤها في مسعى للبحث عن تعويض خارجي عن أوضاعهم الداخلية المأزومة، والتفتيش عن تضامن ودعم عزّ وجوده بين الكثير من مواطنيهم في مصر، هو أمر يدعو للحسرة والأسى أكثر من أي أمر آخر، فإنه مع ذلك، يبدو مبرراً للكثير من القلق. فكما يبدو واضحاً الجانب السياسي للتوسع القبطي خارج الحدود، فإن تماهي الكنيسة مع نظام الحكم الحالي في مصر، يمتد ليشمل توظيف كنائس الخارج في دعمه دبلوماسياً. فغير نشاط الكنائس القبطية في الولايات المتحدة، في تنظيم تظاهرات استقبال الرئيس المصري في نيويورك مؤخراً، لا تكفّ تصريحات قيادات الكنيسة عن ربط النشاط الخارجي للكنيسة بالنظام. ففي تصريحات الأنبا أنطونيوس مرقس، الأسقف العام لشؤون أفريقيا، أثناء وضعه حجر الأساس لكنيسة كمبالا الشهر الماضي، يشير إلى أن "الكنيسة بصدد التوسع في القارة السمراء تماشياً مع توجهات الرئيس السيسي نحو دعم العلاقات مع أفريقيا". وقبلها بشهر واحد، وفي لقاء الأنبا يوسف، أسقف بوليفيا وتوابعها، مع سفراء دول أميركا اللاتينية في القاهرة، لم يقتصر اللقاء على أنشطة الكنيسة القبطية في دول القارة، بل تطرق إلي الأوضاع الداخلية في مصر أيضاً. بل خصص الأنبا أغاثون، أسقف البرازيل، حوار مع جريدة "نداء الوطن" نهاية العام الماضي، نصف حديثه، للدفاع عن النظام المصري والثناء على الرئيس السيسي، في معرض سرده لنشاط الكنيسة القبطية في البرازيل.

لكن، وإن تجاوزنا سوء توظيف الكنيسة لأدواتها الدبلوماسية في دعم النظام الحاكم والتماهي معه، فإن نظرة إلى المواقع والمدونات وصفحات التواصل الاجتماعي القبطية المعنية بنشاط الكنيسة في الخارج، تكشف عن لغة ذات نكهة كولونيالية واستعلائية مخجلة. فغير العنوان الذي اختاره أسقف شؤون أفريقيا، الأنبا انطونيوس مرقس، لكتبه الثلاثة عن قصة الكنيسة القبطية في أفريقيا، وهو "أعبر إلينا وأعِنّا"، والذي، ربما بفعل المصادفة البحتة كان شعار إرساليات المستعمرين البيض الأوائل للهنود الحمر في الولايات المتحدة، فإن عِبارات مثل "التوسع في أفريقيا وآسيا" والتي تستخدمها قيادات الكنيسة في وصف أنشطتها في الخارج، مع صور مرفقة بأخبار الأنشطة القبطية في دول العالم الثالث، والتي تظهر السكان المحليين وهم يتلقون الإعانات أو العلاج من القوافل القبطية، ويتم تذييلها بمصطلح "السكان الأصليين"، أو بوصف "الأفارقة" من دون تحديد جنسياتهم، أو التباهي بمقطع فيديو يترنم فيه أطفال كينيين بألحان كنسية باللغة القبطية، تذكرنا بالصبغة الاستعمارية لأنشطة التبشير الغربية في الماضي. ومع أن هذا الانطباع قد يظهر وكأنه من باب المبالغة المفرطة، فإن مقالاً في موقع "كوبتس.نت" بعنوان "الإمبراطورية القبطية من مصر الجنوبية إلى شمال كينيا"، يبدو صادماً في لغته الإمبريالية المباشرة، ومخيلته الإمبراطورية، التي ربما لا يعززها سوى رغبة في التعويض عن الوضع المؤلم للأقباط في الداخل، وكذلك تأثر أبناء الجاليات القبطية في العالم الأول، بالتراث التبشيري الغربي ومرادفاته.

تبقى لنا في النهاية، أسئلة أكثر إلحاحاً من السياسة والمنطق الإمبراطوري في النشاط الكنسي في الخارج. فإن كانت قناة الطريق القبطية، في مقال منشور في موقعها بعنوان "الكنيسة تبدأ خطة التوسع في أفريقيا وآسيا"، تشير إلى أن ممتلكات الكنيسة في الخارج تصل إلى 400 كنيسة في 60 دولة، و120 ديراً في 40 دولة، هذا غير الملاجئ والمؤسسات التعليمية والمراكز الطبية، فإن تساؤلات تفرض نفسها عن الموارد المالية الضخمة التي يتم توظيفها في النشاط الكرازي في الخارج، لا عن مصادرها التي تأتي في معظمها من جاليات العالم الأول، بل عن طرق إدارتها، وشفافيتها، خصوصاً أن الشؤون المالية للطائفة مقتصرة على الإكليروس من دون مشاركة العلمانيين والمجتمع القبطي.

وحتى لو سلّمنا بنزاهة رجال الكنيسة، فهل أولويات الكنيسة في صرف مواردها تتناسب مع احتياجات الأقباط حقاً؟ هل تحويل الكاثوليك البوليفيين، أو البروتستانت في كينيا، إلى الإيمان الأرثوذكسي "القويم"، وإعادة تعميدهم، وهي أمور يحتفي بها الكثير من الأقباط في زهو، يبدو مبرراً كافياً لتخصيص الكنيسة حصة سخية من مواردها للعمل التبشيري في الخارج؟ ومع الأخذ في الاعتبار معدلات الفقر المدقع والأمّية وتردي مستويات الخدمات التعليمية والصحية والاجتماعية في مصر عموماً، وبين أقباط الصعيد على وجه الخصوص، أليس من باب الرشادة أن توجَّه موارد الكنيسة وأقباط الداخل والخارج إلى سد احتياجات الأقباط، ومواطنيهم من المصريين عموماً، والعمل على تخفيف معاناتهم وبؤس الكثير منهم؟
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024