عندما يخيّب بوتين أمل الروس

بسام مقداد

الجمعة 2019/01/18

الفقر، مشكلة روسيا الدائمة ، عاد يقض مضاجع الكرملين من جديد ، بعد أن كان بوتين قد نجح لفترة من عهده من كبح جماح وتائره المتصاعدة . فقد وصلت أعداد الروس ، الذين يعيشون دون خط الفقر ، في نهاية العام 2017 إلى 19,3 مليون نسمة (13,2% من السكان) ، بعد أن كانت قد بلغت مستواها الأدنى في العام 2013 ، حيث كانت 15,4 مليون نسمة (10,7% من السكان) ، حسب موقع "RBK" الشهير أواخر العام المنصرم . وقد اضطر بوتين إلى إدراج هذه المشكلة ضمن أولويات برنامجه الإجتماعي ، الذي أعلنه في أيار/مايو المنصرم ، ووعد بتخفيض نسبة الفقر مرتين حتى العام 2024 . إلا أن نائبة رئيس الوزراء للشؤون الإجتماعية تاتيانا غوليكوفا قالت بأن التدابير المعمول بها حالياً لمكافحة الفقر لا تسمح ببلوغ هذا الهدف في الموعد المحدد له، وتقدمت منذ أيام ببرنامج "لتحسين طرق تقييم مستوى الفقر" ، والكشف عن الروس الفقراء الحقيقيين المحتاجين للمساعدة الإجتماعية، حسب صحيفة الكرملين "VZ" .

إلا أن استطلاع الرأي ، الذي نشره في 17 الشهر الجاري "مركز ليفادا" الشهير ، ذو المصداقية العالية في روسيا والغرب ، حول ما يعتز به الروس وما يخجلون منه ، قد فجر قنبلة مدوية في وجه السلطة الروسية . فقد ذكر موقع "Znak" الرصين في إيجازه للإستطلاع ، أن النسبة الأعلى (لن أزعج القارئ بالأرقام) من الروس الذين شملهم الإستطلاع يخجلون من "الفقر الأبدي" ، الذي يعيشه تاريخياً "الشعب العظيم" . وترتبك نسبة أقل من الروس حيال التخلف عن الغرب ، ومما هو سائد في المجتمع الروسي من غلاظة في الطباع ومن فظاظة وعدم احترام الآخر. وما يخجل به الروس أيضاً ، وبنسب متزايدة سنة تلو الأخرى ، هو انهيار الإتحاد السوفياتي ، مما يشير إلى ضآلة ما يمكن الإعتزاز به في الحاضر ، ولذلك تتم العودة إلى الماضي ، حسب أحد سوسيولوجيي المركز نفسه .

يقول هذا السوسيولوجي ، أن العزة القومية في روسيا مرتبطة بشدة بالمرحلة السوفياتية وإنجازاتها . ولذلك يعتز الروس ، وبنسب متفاوتة ، بالنصر على النازية في الحرب العالمية الثانية ، وبغزو الفضاء والأدب الروسي ومنجزات العلم الروسي . أما ما يعتز به الروس من أحداث معاصرة ، فهو "استعادة" القرم من قبل روسيا ، كما لا تزال نسبة مرتفعة منهم تعتبر روسيا ، كما في السابق، دولة عظمى .

ومما يُذكر ، أن المركز نفسه كان قد كشف في استطلاع سابق ، أن أكثر من نصف من شملهم الإستطلاع يطالبون باستقالة الحكومة الروسية الحالية ، وذلك بسبب ارتفاع الأسعار وانخفاض مستوى المداخيل والعجز عن معالجة مشكلة العمالة ورفع سن التقاعد.

وفي تعليق له على استطلاع "مركز ليفادا" هذا ، وتحت عنوان "يتزايد خجل روسيا من فقرها ، ويخيب أملها في بوتين"، كتب موقع القوميين الروس "sp" مقالة استنتج عبرها، أن الإيمان الأعمى بالزعيم القومي أخذ ينحسر. ويزايد القوميون الروس مع الشيوعيين على الكرملين في عدائه للغرب وقيمه الليبرالية والديموقراطية ، ويهاجمونه بشدة في سياساته الإجتماعية الإقتصادية ، وخاصة في انحياز هذه السياسات إلى الأوليغارشيين الروس .

ويشير الموقع إلى أن 9% من الذين شملهم الإستطلاع يشعرون بالخجل ، ليس من فقر روسيا فحسب، بل ومن وصول بوتين إلى السلطة ومن نتائج البريسترويكا، ويقول بأن هذه النسب هي الأكثر ارتفاعاً من سائر النسب الأخرى ، إذ ارتفعت نسبة الذين يخجلون من وصول بوتين إلى السلطة من 1% إلى مستواها الراهن خلال 3 سنوات فقط .

ويقول الموقع بأن نتائج الإستطلاع المذكور هذا تؤكد ما يذهب إليه عدد من المحللين ، بأن المشكلة الرئيسية للسلطة الآن هي أن نقد فلاديمير بوتين أخذ يصبح سلوكاً اجتماعياً مقبولاً . وهذا يعني ، برأيه ، أن الناخبين الممالئين ، الذين ينحازون دائماً إلى الأكثرية ، أخذوا يقفون ضد الرئيس. لكنه يستدرك بأن التراجع في الشعبية ليس خطيراً حتى الآن بالنسبة لبوتين، "الذي يقيم في السلطة منذ مدة طويلة"، إلا أن العملية تنمو مثل كرة الثلج، وبعد مرور سنة لن يبقى من التأييد الراهن سوى القليل، كما يتوقع معهد السوسيولجيا في أكاديمية العلوم الروسية ، حسب الموقع .

وينقل هذا الموقع عن كبير الباحثين في المعهد المذكور ليونتي بيزوف قوله ، بأن الليبراليين يخطئون حين يرون أن الحنين يتزايد بين الروس إلى الحقبة السوفياتية ، بل إلى عهد ستالين أيضاً. الحقيقة، برأيه، هو أن ما يجري ليس تأييداً لتوجهات توتاليتارية في المجتمع، بل هو خيبة أمل عميقة بالحقبة الراهنة ، تنمو وتكبر بشكل متواصل. وخيبة الأمل هذه بحاجة إلى بديل ما، يستسهل الروس رؤيته في الزمن السوفياتي، الذي لم ينسوه بعد .

وفي رده على سؤال الموقع حول فترة ظهور خيبة الأمل هذه، يقول السوسيولوجي المذكور، أن الشعور بالخيبة لم يكن موجوداً في العام 2017، بل أخذ يبرز في العام 2018 مع الإنتخابات الرئاسية وعمل السلطة اللاحق . ويقول بأن الروس ، حين صوتوا لبوتين العام الماضي ، كأنهم كانوا يقولون بأن الرئيس ، الذي كان خارج النقد سابقاً ، قد وفوه حقه ولم يعودوا مدينين له بشئ ، وسوف يقفون منه ، من الآن وصاعدًا ، الموقف الذي يستحقه في اللحظة الراهنة .

وما إذا كان الروس يخجلون فعلاً من وصول بوتين إلى السلطة، يقول بيزوف " بالتأكيد . وخيبة الأمل ، وهذا هو المهم، لا تشمل الدوائر الليبرالية فحسب ، بل تشمل أولئك ، الذين كانوا يحتسبون سابقاً في الأكثرية البوتينية " . ويقول بأن من الصعب التنبؤ بدينامية هذه العملية ، لكن حين بدأت عملية تراجع شعبية بوتين السريعة في الربيع الماضي، اعتبر كثيرون أنها ستتوقف وتعود إلى الوراء ، وأنها ظاهرة مؤقتة . لكن الوقت أظهر أنها لم تتوقف ولم تعد إلى الوراء، "وإن كانت لم تتعمق أيضاً" ، على قوله .

ويقول هذا السوسيولوجي ، أن أبحاثه الخاصة حول محتويات شبكات التواصل الإجتماعي تشير إلى أن أحداً لا يتحدث عن أي أمر إيجابي حول السلطة، بل على العكس ، الأمر المشترك في هذه الشبكات هو شتم السلطة . وهذا الأمر يشير إلى انضمام تلك الفئات الإجتماعية، التي تهتدي برأي الأكثرية ، إلى حركة الإستياء من السلطة ، مما يعني أن هذا الإستياء سوف يتعمق . ويؤكد أن عدد الروس ، الذين يواصلون الإعتزاز بضم القرم وسواه من "النجاحات الخارجية" ، قد انخفض بنسبة الثلث إلى ما كان عليه في العام 2016.

وينتهي بيزوف إلى القول بأنه يعتبر أن الروس أخذوا يدركون ، أن روسيا اصطدمت بمصاعب هائلة، ليست السلطة الراهنة مؤهلة لتجاوزها ، وأن استطلاع "مركز ليفادا" يبين أن الروس يرون صعوبة وتعقيد تلك العمليات ، التي انخرطت بها روسيا في السياسة الخارجية .

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024