السيسي يصادر يوم القيامة

شادي لويس

الثلاثاء 2019/03/12
تذهب المزحة الإسبانية إلى أن الديكتاتور فرانكو، بعد أربعة عقود من الحكم، وأثناء شهوره الأخيرة على فراش الموت، وفي واحدة من استفاقاته القصيرة جداً التي كانت تقاطع أسابيع ممتدة من فقدان الوعي، سأل مَن حوله عن الجلبة التي يسمعها قادمة من الخارج. وبعد لحظات من الصمت، استجمع طبيبه شجاعته، وقرر أن يخبره بالحقيقة: "إنها الجماهير، الشعب جاء لتوديعك يا فرانكو". فبدت على الرجل نصف الميت علامات الاندهاش والصدمة، وسأل بحاجبين مرفوعين: "لماذا؟ إلى أين سيذهب الشعب؟". لا يُستبعد أن تحمل القصة بعضاً من الحقيقة، لكننا نعرف أيضاً أن المزحة ذاتها يكررها البرتغاليون عن ديكتاتورهم سالازر، الذي حكم لأكثر من أربعة عقود، وقضى السنتين الأخيرتين من عمره مصاباً بتبعات السكة الدماغية، وخلالهما أوهمه من حوله بأنه مازال يحكم البلاد.

وتظل المزحة قابلة لإعادة التدوير، من مكان إلى آخر، باستبدال اسم البطل وإضافة القليل من الرتوش المحلي. فمنطق الحكم السلطوي يبدو متشابهاً في كثير من خطوطه العريضة، رغم اختلافات المكان والتاريخ. يذهب الرئيس السيسي، في "يوم الشهيد" الذي احتفل بفعالياته يوم الأحد الماضي، إلى مزحة مشابهة، لكن على السبيل الجد من جانبه. فالرئيس "الصادق الأمين"، كما وصف نفسه في المناسبة نفسها، روى مقابلة له مع بعض السياسيين، حين كان رئيساً للمخابرات الحربية، عندما أخبرهم بأنه لا حاجة لهم لطرح أسماء لتولى الرئاسة: "فمصر تحتاج إلى شعب يواجه التحديات، ولا تحتاج رئيساً أو حكومة". هكذا، لا يبدو العيب في الرؤساء أو الحكومات، ولا يبدو كذلك أن رحيلهم أو بقاءهم سيغير شيئاً من واقع الأمور، فالتحديات تسقط بكاملها على كاهل الشعب، الذي يظهر أنه، لا بد، كان ولايزال مقصّراً.

لا ينبغي تحميل جملة الرئيس أكثر من معناها، وافتراض أنها دعوة لرحيل الشعب، واستبداله بآخر أكثر مسؤولية، وأكثر جَلَداَ في مواجهة التحديات. فالخلاص من مئة مليون شخص، أو معظمهم، يبدو فرضية مستحيلة، لكن الرئيس يعود ويخبرنا بأنه سيقابل الشعب في العالم الآخر ليحاسبه: "وسأقف أمام الله، أسألكم كما تسألوني، وسأحاسبكم كما تحاسبوني". ويشفق الرئيس على الشعب من لحظة الحساب العسيرة تلك، مضيفاً: "والله خايف عليكم".

يكرر الرئيس واحدة من قناعاته الراسخة، بأن مهمته ليست أرضية، وأنه مسؤول أمام الله، لا أمام البشر. يعيد السيسي ذلك، مرة بعد مرة، معرباً بين حين وآخر عن تبرمه من مسألة أهل الأرض له في الحياة الدنيا، ويحذرهم أخيراً بأنه ساعة الحساب، في يوم الحشر، سيعود بنفسه ليرد الصاع لمن تجرأ على سؤاله. يذكّرنا الرئيس بأن الخطر في الداخل، لا الخارج، أن العدو من الشعب، وفي داخله، وأن مهمة الجيش ليست خارجية بقدر ما هي داخلية. "الإهمال أشد خطراً من الإرهاب"، لذا فإن قواتنا المسلحة، كما توكل إليها محاربة الإرهاب، فإنها ستتصدى للإهمال أيضاً، فيعلن الرئيس تعيين رئيس الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، وزيراً للنقل.

في "يوم الشهيد"، الذي يأتي بعد احتجاجات غير متوقعة، رغم محدوديتها، على خلفية حريق محطة قطار رمسيس، لا يقدم الرئيس في خطابه جديداً. يشير ضمناً إلى تظاهرات السودان والجزائر، ويحذرنا من حروب الجيل الخامس والسادس، لكنه يزحزح منطقَه خطوة أخيرة، نحو النهاية المتوقعة: "تزعلوا من السيسي أو تكرهوني، ما يجراش حاجة عشان البلد تعيش. لكن عشان نعيش، نضيع البلد؟ ما ينفعش". هكذا، فإن قبول المصريين أو رفضهم، كراهيتهم أو حبهم، موافقتهم أو رفضهم، ليست ذات شأن هنا، لا يعتد بها الرئيس، ولا تؤثر في تمسكه بالحكم، فالفيصل هنا أن "البلد تعيش". ويأخذ السيسي منطقه ذاك إلى منتهاه، في الجملة التالية: فلكي نحافظ على البلد، لا يعني هذا بالضرورة أن يعيش الشعب، فالحكم الوحيد بين الرئيس وبيننا، هو يوم الدين.

يعرف الرئيس حتماً من أجهزته، شديدة التفاني في عملها، أنه لم يعد محبوباً كما كان، بل ربما بات مكروهاً أيضا. لكنه يتحمل ذلك عن طيب خاطر، ولا يمانعه، طالما أن سيستعيد حقه منا في العالم الآخر. وإلى أن يحدث ذلك، فالرئيس يبدو عازماً ومصمماً على استكمال مهمته السماوية.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024