الاخوة العربية الكردية:السلام لروحها

أحمد عمر

السبت 2019/10/26

إتصل بي صديقي أبو البر، ليلاً، وقال حالة إسعافية، والإسعاف يكون في غير شأن الطب والصحة، فلبست أخفّ ثيابي، ولم أصطحب معي من السلاح والحلقة سوى الدراجة ومعطف المطر، وكان قد أرسل لي العنوان، ووجدت الباب مفتوحاً بانتظاري، والجدل محتدماً. شرح لي أبو البر ملخص القصة، فقال: إن الأعمى والبصير، مختصمان بسبب لعبة شطرنج، الأعمى كردي والبصير عربي، نشأت صداقتهما في المخيم، وهما صاحبا دين وتقوى، وكلاهما يحبّ الطرب أيضاً، ويعزف على آلة العود الموشحات والابتهالات، وقفت زوجة البصير حزينة، وقد أظلم وجهها لما وقع بينهما من شحناء، وكان قد علا صوتهما، وخافت من شكاوى الجيران الألمان الذين ينامون باكراً، أن يتصلوا بالشرطة، فأغلقت النوافذ بإحكام.  اقترح عليّ أبو البر أن أتولى الكردي ويتولى هو العربي، فطلبت منه أن نعكس الولاية، وأتولى أنا العربي، فقبل، واختلى كل منا بصاحبه، صاحبي كان في المطبخ منفياً في الشقة الصغيرة، حرجاً من مواجهة الأعمى. شرح لي العربي سبب الخصومة، هما يخوضان كل يوم معركة شطرنج، فقد يربح أحدهما ويخسر الثاني، ويزور أحدهما الآخر حسب النشاط والكعك الذي تعدّه الزوجة، وقد توافق الزيارة صلاة العشاء، فيصلي صاحب البيت إماماً بصاحبه، لكن جديداً جدَّ هذه الليلة، وانفجر لغم تحت الأقدام، الأعمى ذكي ويحفظ الرقعة، ويحرك الحجارة بذكاء، وكان قد انفجر به مدفع رمضان في العاشرة من عمره، وأصاب عينيه، فعمي. مدَّ يده إلى الوزير وتلمس موقعه ليكرّ به على الحصان، فحذّره صاحبنا العربي وهو من إدلب، وقال: بهذه الحركة تخسر الوزير يا أبا صلاح، فتوقف أبو صلاح الكردي وجمد وقال: معناها غشّيت، وحركتَ الحصان من محله يا أبا نادر، قال: والله ما حركتُ الحصان، أنا أغشّك يا أبا صلاح! على إيش. أبو صلاح كبرت في رأسه، وأصرّ على أن أبا نادر غشاش، والدليل على ذلك قسَمه، فقد حلف وهذه علامة كذب، فهي المرة الأولى التي يحلف بها، فهو ينزّه لسانه عن القسم مع أن الحلفان بالله عادة عربية وكردية، يحلف بها العربي على كل أمر، والله الجو حلو، والله الدنيا برد، حتى غدت التسمية بالله مفتاحاً للحديث لا قسماً. الألمان هنا تأثروا من زملائهم الترك، وهم كثر فيها، لأنها أول مدينة استقدمت أتراكاً للعمل، فيكثر الطلاب من قول "فالله"، لأن الترك لا يحسنون نطق الواو، بينما أتقنها الكرد السوريون بسبب العشرة الطويلة مع العرب.

سهّل عليّ أبو نادر البصير المهمة، ما دام تقياً، فذكرت له فضل الإحسان، وكررت له الآيات القرآنية في العفو، وهي كثيرة، وسردت بعضاً من أخبار العفو وفضائله، وفي السيرة النبوية وأخبار الخلفاء والصالحين المتقدمين والمتأخرين، فلانَ وذكر لي أنه لم يغضب من اتهام صاحبه له بالغش، فلعلها حماسة جاهلية، لكنه اشتطّ وقال: أنتم العرب غشاشون، من أسوأ الناس، إرهابيون، ودواعش، وليس من رجل يستحق الكرامة والتقدير سوى النبي، الذي لا يعرف كيف اختاره الله من العرب، وأنه لو اختاره كردياً لكان خيراً للجميع!

 كنت قد أفرغت جعبتي من الأمثلة، وخرستُ بعد ذكر هذه الملاحظة، حاولتُ تهدئته وأعدْتُ له بعض الأمثلة، فلعلّها زلة لسان، وذكرت له أن النبي عليه الصلاة السلام لم يعاتبه ربه سوى مرة واحدة في أعمى، وأنه ليس على الأعمى حرج. وسكتنا ننتظر المفاوضات في الغرفة الثانية.

كانت أخبار عملية نبع السلام والحمى التي صاحبتها هي السبب، الكردي هو بطل الأخبار العالمية، والماكينة الإعلامية الألمانية لا تكفّ عن شتم أردوغان، لي جيران ألمان يعيشون في كومونة هيبية، برية، كانوا قد أشعلوا الليل أمس بأغان كردية حماسية حربية، وقد وقعت شجارات، وطُعن تركي في مظاهرة، وجلسنا ننتظر أبا البر ونحن نسمع همهمته من الغرفة الثانية، وما لبث أن عاد أبو البر فقال: عجزت.. ما في أمل.

 كنا ننتظر نهاية سعيدة، فالعميان بصيرون غالباً، كل المتنبّئين في السرديات العربية والعالمية عميان،  ترزياس في أوديب لسوفوكليس مثلا، العميان من أكثر العارفين بالله، لأنهم في راحة من عمى الألوان وبريق الذهب الكاذب وفتن النساء: أبو العلاء المعرّي، وابن سيده، والعكبري، وزين الدين الآدمي، والرازي، وطه حسين.. المدوّنات السردية التي كان بطلها أعمى كثيرة؛ أمبرتو إيكو، وساراماغو، وكورولنكو، وغسان كنفاني، ويوسف إدريس، ومحمد خضير، وإبراهيم أصلان، وهـ.ج. ويلز.

جاء ابن أبي صلاح، وأخذه من يده إلى بيته مرشداً، وخرجنا أنا وأبو البر، وآخر ما سمعته من أبي نادر أنه أمر ابنه بأن يحذف اسم صاحبه من جهاز الهاتف. كنا مكتئبين، لفشلنا في إنقاذ صداقة شهد لها أبو البر بالمودة والأخوّة. سرد ما جرى له مع صاحبه، صبَّ جهده لإقناع أبي صلاح بأن أبا نادر لو شاء لغشه بطريقة أسهل، وهي أن يدّعي أنَّ الحصان محمي بجندي، وأن الكردي كان يمكن أن يصبر ويؤجل حسم المعركة بلعبة أخرى، وأخبر الكردي أنه لا متعة في انتصارٍ مغشوش، وأن الحرب بينهما سجال، فلمَ يغش هذه المرة؟! لكنه كان ينحت في الصخر، وكان تقديره أن الإعلام العالمي أفسد هذه الصداقة، بجعل الكرد يأخذون فياغرا أوربية وامريكية، ويستعينون بالأمريكان، ويصفون العرب بالدواعش بلا استثناء، من أدنى اليمين حتى أقصى اليسار، ويقيمون دولة بأسرع وقت ممكن حتى على رقعة الشطرنج، ويحتلون القرى العربية ويهجّرون أهلها، ويسمونها بأسماء كردية، مثل حزب البعث الذي سمّى القرى الكردية بأسماء عربية، كنت ساكتاً، يجب أن يكون بين الكرد حليم واحد حتى يثبت شذوذ القاعدة.

 روى لي أبو البر ثلاث قصص من ذكرياته، هذه إحداها، قال:

كان معي في الخدمة العسكرية زميل كردي، وكنا في خيمة بالصحراء، ونجلس على الأرض، فيصطدم دوماً بكوب الشاي فيهرقه، فأقول له: اعتذر، ولم يكن يعتذر، كانت تلك طريقته في المزاح، فنهضت في الكوب الثالثة المهرقة، وأمسكته من ذراعه ولويتها وراء ظهره وقلت اعتذر، ولم يفعل، لويتها أكثر، وهو صامت، قسماً بالله كدت أخلعها من محلها وهو صامت، حتى خشيت عليها من الخلع، فقلت لنفسي: العمى! إن كان أحمق، فهل أتحامق مثله فتركتها.

 ودرت ظهري لأعود إلى مكاني، فانقضّ عليّ ولوى ذراعي، ولواها لياً قاسياً، وقال: اعتذر، فاعتذرت لأني خشيت على ذراعي من الخلع. 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024