داعش إذ يسقط من الذاكرة

مهند الحاج علي

الجمعة 2019/02/08

يتجه الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى إعلان هزيمة تنظيم "داعش" بشكل كامل خلال أسابيع، ليُضيف انتصاراً جديداً الى سجله، وربما ليطوي صفحة الوجود الأميركي في شرق سوريا، والذي كان قتال الإرهاب مبرره الأساسي. إذاً، "داعش" سيتبخر قريباً من الأولويات الأميركية، وهو قبلاً ذاب في غرف الأخبار الدولية والعربية والمحلية، لمصلحة قصص وأنباء أخرى تستقطب اهتماماً أكبر من الناس.

في ظل الغياب المرتقب، من الضروري التساؤل عن آثار جرائم "داعش" في الوعي الجماعي لسكان المنطقة، واحتمال اختفاء التنظيم من ذاكرة الناس أيضاً. ذلك أن أحداً لم يُوثّق هذه الجرائم، ولم يبذل مجهوداً في إبراز آثارها والتبريرات الدينية والسياسية لما ارتُكب.

خلال السنوات القليلة من سيطرته، أقدم التنظيم على جريمة إبادة وحشية بحق الأقلية الإيزيدية في العراق، وخطف وسبى مئات النساء في ضرب من العبودية الحديثة. كما هجّر بقية مسيحيي الموصل بعد فرض ضرائب قروسطية عليهم، ووسم منازلهم بحرف النون للدلالة على تمايزهم الطائفي.

أباد التنظيم آلاف المعتقلين لديه من الناشطين الشباب لأسباب متعددة، وبينهم من اعتُقل لمجرّد الشبهة من دون ارتكاب أي جريمة. ونُشرت بعض الروايات عن الفصول المُظلمة من تاريخه، مثل حُفرة الهوتة في الرقة حيث أُلقي بعض المُحتجزين، أحياءً أو جثثاً، أو مجزرة "سبايكر" بآلاف الجنود العراقيين. الكثير من الجرائم صُوّر أيضاً مثل حرق طيار أردني حيّاً أو ذبح الرهائن العرب والأجانب. منطقتنا قبل "داعش"، ليست كما هي بعد رحيله، إذ أُصيب نسيجنا الاجتماعي بنكسة من الصعب عكس نتائجها.

لم يُثر هذا الحدث الجلل في منطقتنا زلزالاً ثقافياً، إن كان من خلال الإنتاج السينمائي أو المسرحي أو الروائي، كما حصل مع إبادات وجرائم كبرى أخرى، بهدف تحويلها الى نوع من الروايات أو الحكايات الوقائية (Precautionary Tale) لتحذير الأجيال المقبلة.

الواقع أن هناك اليوم انفصالاً بين الفضاء الثقافي والإعلامي من جهة، وجرائم "داعش" من جهة ثانية، وكأن مسلحين من كوكب آخر ارتكبوها. يبرز سببان وراء هذا التوجه. أولاً، تنظر الأنظمة العربية وآلاتها الإعلامية والثقافية إلى الربيع العربي بكل مكوناته كمؤامرة خارجية هدفها التخريب والتقسيم، وبالتالي تنفي الوكالة أو الاستقلالية عنه. ولا بد أن يقود هذا المنطق إلى اعتبار كل "منتجات الربيع العربي" من جماعات جهادية، أيضاً تكوينات مؤامراتية لا علاقة لها بمجتمعاتنا.

ثانياً، هناك تركيز من ما يُسمى "محور المقاومة" وفيه إيران والنظام السوري و"حزب الله"، على الربط بين الولايات المتحدة و"داعش"، ونسج روايات خيالية من قبيل انزال المساعدات الأميركية جواً على التنظيم، ونقل عناصره بمروحيات الجيش الأميركي. وفقاً لهذا المنطق، التنظيم مخلوق أميركي، مسلوخ عن أي ثقافة أو تيار في منطقتنا، وبالتالي لا داعي لأن نُفكر بالتجربة من منطلق مسؤولية جماعية، أو حتى رغبة في تجنّب تكرار ما حصل. مجرد التفكير بالأمر هو اشتراك بالمؤامرة الأميركية.

باختصار، يلوح مع نهاية "داعش"، تواطؤ عابر للخلافات السياسية، على إخفاء هذه التجربة الإجرامية، ونفي الوكالة عنها، وإحالتها إلى مجرة المؤامرات. إنها فوبيا المحاسبة والمساءلة التي يتسع صدرها حتى لتنظيم مثل "داعش".

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024