الكُرد وروسيا:تاريخ من الخيبات

إياد الجعفري

الخميس 2019/04/18


كمٌ كبيرٌ من التنديد واللوم الموجه لروسيا، ملأ بيانات مسؤولين كُرد بشمال شرق سوريا، خلال الأيام القليلة الفائتة، بصورة توحي بأن القادة الكُرد راهنوا حقاً على أن روسيا قد تضغط بشكل جدّي على نظام الأسد، وتُعرّض مصالحها مع تركيا وإيران للخطر، كُرمى للحلم الكُردي في الحكم الذاتي.


فالبيانات الصادرة عن "الإدارة الذاتية الكردية" مؤخراً، تشعرك وكأن مسؤوليها لم يقرأوا تاريخهم القريب جداً، الذي يعود فقط إلى خريف العام 1998 حينما وصل رمزهم، عبد الله أوجلان، إلى موسكو بأوراق سفر مزورة، ليطلب اللجوء في بلدٍ ربطته به علاقات تاريخية وطيدة، ناهيك عن المُشترك الآيديولوجي الذي جمع أوجلان بقادة روس كبار، من بينهم، يفغيني بريماكوف، الشيوعي السابق، ورئيس الوزراء الروسي حينها. لكن كل ما سبق لم يكن كافياً كي يقبل بريماكوف بتعريض العلاقات الروسية – التركية للخطر. وخلال 20 يوماً فقط، طُلب من أوجلان المغادرة، رغم تصويت غالبية 299 نائباً من أصل 300 نائب في مجلس الدوما، لصالح قبول طلب لجوء أوجلان. وغادر أوجلان موسكو، في رحلة تشرد كانت نهايتها في كينيا، حيث اعتُقل على يد المخابرات التركية، ليقبع في السجن حتى اليوم.


قِيل حينها أن بريماكوف كان يراهن على عقد غاز مُغرٍ مع تركيا. يومها كانت استراتيجية الشراكة في تصدير ونقل الغاز عبر تركيا، ما تزال مجرد فكرة وليدة. وكان أوجلان أقل قيمة في نظر الروس من تلك الفكرة. أما اليوم، فتشكل استراتيجية الشراكة مع تركيا في نقل وتصدير الغاز، واحدة من أولويات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وبالتالي، نستطيع أن نتخيل، بالمقارنة مع ما حدث عام 1998، الفرق بين وزن العلاقة مع الكُرد، ووزن العلاقة مع تركيا، في حسابات فلاديمير بوتين.


لكن، إذا تعمقنا أكثر في تاريخ العلاقة بين روسيا والكُرد في المنطقة، سنكتشف أن القضية ليست قضية غاز فقط، بل هي نظرة ثابتة ومستقرة، ترى فيها روسيا أي تعاون لها مع الكُرد، تعاوناً ظرفياً، لأهداف تكتيكية، ومؤقتة. ففي كل منعطف تاريخي، كان على روسيا المفاضلة فيه بين علاقتها مع تركيا أو إيران، وبين علاقتها مع الكُرد، كانت تفضل الأولى. ولم يحصل العكس أبداً، إلا في حدود استخدام الكُرد لمضايقة تركيا وإيران، بصورة مؤقتة وظرفية.


لم تذهب روسيا أبداً حتى النهاية في علاقاتها مع الكُرد، بصورة تهدد علاقاتها مع الإيرانيين والأتراك. وهذه قاعدة تنسحب على مدة زمنية ترجع إلى بدايات القرن التاسع عشر، باستثناءات محدودة تثبت القاعدة بدلاً من أن تنفيها.


فحتى خلال فترة الحروب الروسية – التركية، في العهد القيصري (القرن التاسع عشر)، حينما استخدم الروس مقاتلين أكراد ضد الأتراك، لم تذهب الإدارة القيصرية إلى حدود دعم الحلم الكُردي بالاستقلال عن الدولة العثمانية. بل على العكس، خيبت روسيا القيصرية آمال قادة كرد حيالها، رغم مغازلتهم المتكررة لها، ورهانهم عليها، والذي امتد عقدين من الزمن.


وحتى خلال الحرب العالمية الأولى، لم تدعم روسيا القيصرية مساعي الكُرد للاستقلال عن الدولة العثمانية. وبعد الثورة البلشفية، بقيت استراتيجية بناء علاقات وطيدة مع تركيا، مُقدمةً في نظر قادة روسيا الشيوعية، على دعم حركات انفصالية كردية.


ورغم أن مؤرخين يصفون الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية، بأنها الفترة الذهبية للعلاقة السوفيتية – الكردية، حينما دعمت موسكو لفترة وجيزة، الملا مصطفى البرزاني، بالسلاح والخبرة القتالية، إلا أن ذلك كان أقصر من أن يُلحظ في تاريخ السياسة الروسية الممتدة لقرنين، تجاه المسألة الكردية. وكان هدف الدعم السوفييتي للكُرد حينها، الضغط على حكومة نوري السعيد في بغداد، الموالي للغرب. إذ سرعان ما رجحت كفة العلاقة مع العاصمة بغداد، في ميزان المصالح السوفييتية، على العلاقة مع حركة البرزاني الانفصالية، بعد انقلاب عبد الكريم قاسم، عام 1958. وبقيت هذه المعادلة هي السائدة، خلال فترة حكم صدام حسين، رغم الدور السوفييتي في التوسط مع بغداد لإنشاء حكم ذاتي للكرد في شمال العراق عام 1974. وحتى بعد الغزو الأمريكي للعراق، وازدياد استقلالية إقليم كردستان العراق، ودخول شركات نفط روسية على خط الاستثمار فيه، بقيت الكفة ترجح لصالح العاصمة بغداد، ولصالح العلاقات مع إيران وتركيا، في وجهة النظر الروسية حيال المسألة الكردية. وظهر ذلك جلياً في الموقف الروسي عشية استفتاء الاستقلال في كردستان العراق في خريف عام 2017.


أما في التجربة الكردية السورية، فيكفي أن نذكر الضوء الأخضر الروسي الذي سمح بدخول تركيا إلى عفرين، بوصفه أكبر دليل على صعوبة تخيل رجحان كفة العلاقة مع الكرد على كفة العلاقة مع تركيا في ميزان الحسابات الروسية.


بعد الاستعراض السابق، تُصاب بالصدمة حينما تقرأ في بيانات مسؤولين كُرد في الإدارة الذاتية بشمال شرق سوريا، أن روسيا خيّبت آمالهم، وأنها فضّلت مصالحها مع تركيا على علاقاتها معهم! لكن، هل فعل الروس بهذا الصدد شيئاً لم يفعله الأمريكيون؟ فقط للتذكير فإن واشنطن لم تدعم استقلال إقليم كردستان العراق، قبل أقل من سنتين فقط، رغم حلفها الاستراتيجي الوثيق مع أربيل، مراعاةً لمواقف وأوزان كل من إيران وتركيا، في المنطقة. فهل ينتظر قادة كُرد من روسيا، ما لم تفعله أمريكا؟!



©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024