ديوث الشام وهدهده

عمر قدور

السبت 2020/11/21
في الخامس والعشرين من تشرين الأول 1977 نجا عبدالحليم خدام من محاولة اغتيال، وهو في مطار "أبو ظبي" مغادراً في نهاية زيارة رسمية بصفته آنذاك وزيراً للخارجية. محاولة الاغتيال تبنتها منظمة "حزيران الأسود" انتقاماً لضحايا مجزرة تل الزعتر، وهي لم تكن اعتباطية بمعنى استهداف أي مسؤول سوري متاح، ذلك ما تشرحه أيضاً قصيدة تل الزعتر لمظفر النواب التي يقول فيها: أتهمُ الماموثَ النجدي وتابعه، ديوثَ الشام وهدهده. في استهلال لهجاء وشتائم لا تستثني القادة العرب، واشتهرت تلك الشتائم وصاحبها آنذاك. 

وراء هجاء مظفر النواب ومحاولة اغتيال خدام، هناك معنى مفاده وجود وزير خارجية كان يُنظر إليه في ذلك الزمن كشريك لحافظ الأسد في سياسته الخارجية، لا كموظف متواضع ينفّذ الأوامر ولا يرقى ليكون هدفاً معتبراً لأي خصم. حتى فاروق الشرع الذي أمضى المدة الأطول من بين ثلاثة وزراء خلال نصف قرن من الحكم الأسدي لم يكن يُنظر إليه كشريك في صنع السياسة الخارجية، بل كان هناك من رأى في ترفيع سلفه خدام إلى منصب نائب الرئيس وتكليفه بوزارة الخارجية إزاحة للأول عن السياسة الخارجية لصالح احتكارها المطلق من قبل القصر الرئاسي.
 

الصلة التي جمعت بين حافظ الأسد وعبدالحليم خدام قديمة، وأول إثبات على متانتها بيان سقوط القنيطرة في حرب حزيران 1967 إذ يُنسب إلى الثاني الذي كان محافظ المدينة، قبل إصدار الأول الذي كان وزيراً للدفاع أوامره بالانسحاب منها، وقبل وصول القوات الإسرائيلية إليها بثماني عشرة ساعة. ثم بعد انقلاب الأول سيعيّن الثاني وزيراً للخارجية في الحكومة الأولى التي شكلها برئاسته، ليستمر فيها قرابة عقد ونصف، وهو الوزير الوحيد من تلك الحكومة الذي بقي منها طوال تلك الفترة. 

بخلاف خدام، لم تكن هناك صلة وثيقة مبكرة تربط بين فاروق الشرع والأسد، رغم أن صعود الشرع من وزارة الخارجية إلى منصب نائب الرئيس "في عهد الابن" يذكّر بصعود خدام، ثم أتت بعد الثورة الإشاعات الكاذبة عن انشقاقه كأنما لتطابقَ مسيرته مع مسيرة سلفه الذي انشق بعد اغتيال رفيق الحريري. الشرع أتى إلى الخارجية من مؤسسة الطيران عام 1976، ليُعيّن سفيراً في إيطاليا، وفي منصب وزير الدولة لشؤون الخارجية بين عامي 1980 و1984، أو ما يمكن اعتباره وزيراً للخارجية تحت التمرين. بانتقاله إلى وزارة الخارجية خلفاً لخدام، يجوز القول أن الحمام الزاجل قد حل مكان الهدهد وفق الموروث المجازي للطيرين، إذ ينسب التراث إلى الهدهد مهارات تفوق الحمام الزاجل الذي تقتصر مآثره على نقل الرسائل. 

في عام 2006 سيصبح وليد المعلم وزير الخارجية الثالث خلال نصف قرن من حكم الأسدية، أيضاً بعد سنوات من تسميته معاوناً أو نائباً لسلفه فاروق الشرع. الميزة الوحيدة لوليد المعلم على سلفيه في المنصب أنه بدأ حياته المهنية في الوزارة نفسها ولم يأتها من سيرة مهنية مختلفة، إلا أن هذه الميزة "التي يُفترض أن تكون في صالحه" لم تُسفر عن مظهر أرقى للدبلوماسية السورية، فالوزير الجديد لم يقدّم أداء علنياً لافتاً ينضح بخبرة مهنية واسعة، وحتى منطوقه لم يتميز عن سلفيه إلا بهدوء نبرته وتمهله في الكلام مقارنة بهما. 

حالُ الوزير "المحترف الدبلوماسي" الجديد كان فيه دلالة على حال وزارته عموماً، فهي خلال عقود افتقرت طرداً إلى الكفاءات، وسادت فيها المحسوبيات على غرار باقي الوزارات. يعلم الوزير أن تعيينه غير متعلق أصلاً بكفاءته، ويعلم أنه غير قادر على التحكم بوزارته التي تخضع التعيينات الداخلية فيها لمحسوبيات تتصل بالقصر الرئاسي نزولاً إلى أفرع المخابرات. ذلك كله لم يُنظر إليه يوماً كمؤثر سلبي على صناعة القرار السياسي السوري، بما أن القناعة المعممة هي صدور القرار من رأس الهرم، أما موظفو الخارجية فهم في أحسن الأحوال منفذون جيدون لتلك القرارات، وميزتهم الأهم هي المكاسب الشخصية للبعض بفضل العمل في السفارات ومزايا الحقائب الدبلوماسية التي تعبر المطارات من دون تفتيش. 

كدلالة بليغة عن عدم التهاون في احتكار القرار، يُروى مثلاً أن حافظ الأسد أقال رئيس الوزراء "القوي حينها" عبدالرحمن خليفاوي، في آذار 1978، فقط لأن الأخير تحدث من دون أن يطلب منه ذلك في اجتماع قمة مع رئيس عربي، وكان قد قال في الطائرة التي أقلّت الوفد الرئاسي العائد إلى دمشق وهو يضحك ساخراً: عبدالرحمن يظن نفسه رئيس وزراء مثل مناحيم بيغن! ليضحك أعضاء الوفد مدركين أن ساعة إقالة زميلهم قد حانت. كانت آلية تعيين الحكومات تمر بلجنة ثلاثية تقترح على الرئيس أسماء الوزراء، لكن أحداً من أعضاء تلك اللجان لم يتجرأ على اقتراح أسماء لوزارة الخارجية أو الدفاع أو الداخلية، وربما الإعلام. رئيس الوزراء الذي اخترق الخط الأحمر كان عبدالرؤوف الكسم الذي اقترح اسماً لوزارة الدفاع، فأقيل ليخلفه في المنصب محمود الزعبي الذي كان يُضرب بضعفه المثل. 

إمساك القصر بالوزارات "الحساسة" يعني في الحالة الأسدية تحويلها إلى أوكار لأجهزة المخابرات التي تتولى مراقبة كل شاردة وواردة، هذه هي طريقة القصر في الإشراف والسيطرة، والمراقبة لا تكون بواسطة جهاز مخابرات واحد، قد يخضع بدوره لحسابات رئيسه، بل تكون بواسطة أكثر من جهاز ضماناً لتنافس تلك الأجهزة فيما بينها. ضمن هذا الوضع، التنافس على منصب وزير الخارجية ليس تنافساً على موقع تنبع أهميته من المسؤوليات التي يضطلع بها، هو تنافس على منصب تحت مجهر القصر، ويفترض أن يكون صاحبه مرضياً عنه وذا حظوة ما لدى سيد القصر، وذلك أقصى طموح لموظف أسدي من خارج دائرة ضباط المخابرات. 

من المرجح ألا يضمر آل الأسد أدنى احترام للسياسة، فهم استولوا على السلطة بالقوة لا بالسياسة، ومنعوا ممارستها في الداخل، بما للمنع من أثر في خنق أي حراك سوري عام، وأيضاً لأي حراك "بالمعنى الإيجابي" ضمن السلطة الأسدية ذاتها. فقط في المرحلة الأولى اقتضى التأسيس نشاطاً دبلوماسياً شاركت فيه بفعالية وزارة الخارجية، تلك كانت مرحلة "ديوث الشام وهدهده". مع منتصف الثمانينات، سيطيح تركيز الاهتمام على مشروع التوريث الدبلوماسيةَ النشطة السابقة، بهُدهدها وبركائزها ومن تلك الركائز العلاقات العربية التي راحت تتأثر بالتسلل الإيراني وبالتنسيق المتعاظم مع طهران في لبنان. لقد مرت الدبلوماسية الأسدية بأوقات لم يكن عدد سفرائها أكثر من عدد أصابع اليد الواحدة، وما هو واضح جداً للسوريين بات واضحاً لقوى الخارج التي صارت الدبلوماسية السورية تعني لها الوعود التي يقدمها حافظ الأسد شخصياً، ومن ثم وريثه قبل التصريحات المتكررة عن عدم وفاء الأخير بوعوده بخلاف أبيه.

رحل ثالث وزير للخارجية الأسدية في ذروة عطالة وزارته، حيث تتناهب طهران وموسكو السيطرة على القرار الخارجي، بينما يجهد بشار ليدس نفسه بينهما. الطريف ربما أن وفاة آخر وزير خارجية أسدي قد تفتح الباب على بعث قليل من الروح في وزارته، إذا فرضت قوى الخارج المسيطرة تعيين تابع يعفيها على الأقل من ملاحقة الالتزام بتفاصيل ما تقرره.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024