الجوكر: أصول الحكاية

أحمد عمر

السبت 2019/10/12
إرتدَّ السينمائيون في هوليود على أدبارهم، فوقعوا على حكايات البدايات والجدّات والطفولة قبل النوم، فكان فيلم "ملك الخواتم"، و"جاك قاتل العمالقة" وغيرها، وهاهم ذا يستنبطون حكاية سينمائية من مغامرات باتمان المرويّة بالصور، لكن من حيث لا نتوقع، ففيلم الجوكر فيلم نفسي أو هو فيلم شخصية، وقد نشهد ظاهرة جديدة هي دراسات نفسية لأبطال القصص المصوّرة، ونرى في قادمات الأيام فيلماً مثلياً بين تان تان والكابتن هادوك مثلاً.  فيلم الجوكر يعيد الاعتبار للمجرم ويجعله بطلاً، وهو ليس الأول من نوعه في بطولة البطل الشرير، اكتسب البطل الشرير اسما علميا هو المصاب بمتلازمة استوكهولم، أشهر هذه الأفلام فيلم "عصر يوم قائظ" بطولة آل باتشينو الذي يقدم لص بنوك يتعاطف معه الناس. يبشر فيلم الجوكر بحصد أرباح خيالية لم يحصدها فيلم "آلام المسيح" نفسه أكثر الأفلام درّاً للأرباح في تاريخ السينما. لقد كان المسيح مربحاً دوماً، باستغلال قسطنطين دين المسيح لإنشاء امبراطورية بيزنطة على أنقاض امبراطورية روما في الدنيا، والحروب الصليبية لاحتلال قارة أمريكا.. وفي الآخرة سيحمل ذنوب كل هؤلاء المجرمين.

   الفيلم يتضمن صورة من صور المسيح، لكنها صورة سوداء، انتقامية، مقلوبة، هي نقيض صورة المسيح النبوية، وإن اشتركت معها بشمائل أساسية هي اليتم وفقدان الأب، لنذكر أن الأم مريم العذراء باهتة الحضور في سيرة المسيح الإنجيلية. الجوكر مشغول في الفيلم بالبحث عن أبيه، وبحاجة للحنان، ثم يجد مصيبة أخرى وهي أن أمه ليست سوى مربية، وإنها كانت قاسية معه في الطفولة وتعذبه، وسيرتها غير كريمة، فيقتلها.

 وقد قرأنا أو سمعنا أخبار استنفار حكومي واجتماعي في أمريكا من هجوم الجوكر على النظّارة، يمكن تصنيف الفيلم بين أفلام الرعب أيضاً، قيل إن الفيلم يهدد بدماء كثيرة في مجتمع أمريكي يبيح السلاح كما تحض الحكومة المجتمع السوري والمصري  على اقتناء صور الرئيس، فما العنف الذي يحمله الفيلم، وأفلام أمريكية أخرى تضمنت عنفاً أكثر، وقلّما تخلو أفلام أمريكية من القتل السريع.

 هذا الفيلم يحمل رسالة مفادها إن قتل شخص واحد يرسل رسالة أخطر من قتل مائة شخص، فالجوكر يقتل أمه وصديقه، وكنا فهمنا قتل الأم، لكن قتل الصديق كان غدراً خالصاً، وكان قد جاء ليحتفل، ويتفق مع الجوكر على رواية واحدة للمحققين حتى يضمن براءة صديقه من تهمة قتل الثلاثة في القطار، ثم يقتل مع سبق الإصرار أشهر مذيع تلفزيوني على الهواء مباشرة. فما أصل الحكاية، أين كانت بذرتها، وقد أشرنا قبل سطرين إلى المسيح، فهل الجوكر مسيح معكوس وغاضب؟ لنذكر أن الجوكر شيطان، وهو شيطان أوراق اللعب، بطل القمار، النكّات، هو بلا قيمة أحياناً في القمار، أو بقيمة مطلقة أحياناً أخرى. وكان في الفيلم كذلك، مرة بلا قيمة ومرة بقيمة مطلقة، ملكاً للشر.

 حكاية الجوكر: الجوكر المسكين يرعى أمه بوفاء نادر في المجتمع الأمريكي، بل إنه يحمّمها عارية، ويعيش من الإعلانات في مدينة الشيطان غوتام، قناع الجوكر مقتبس من صورة الشيطان، والجوكر متسامح، يهوى مداعبة الأطفال وإضحاكهم، يتجنب الانتقام من الصبية الذين سرقوا شاخصة الإعلان منه، فيعطلون عمله ويغرمونه غرامة مالية ويحملونه عقوبة من رب عمله ويضربونه ضرباً مبرحاً، لكنه يتحول بسرعة إلى مجرم بعد أن يخفق  في الحصول على اعتراف أبيه، ثم نجده يقتل ثلاثة أشخاص في القطار سخروا من مرضه وهو الانخراط في الضحك من غير سبب، ثم يكتشف أنه لقيط، وإن أمه كانت قاسية أيضاً، ومريضة نفسياً، وتربطه بمشعّات الحرارة، وهو مريض نفسياً، وقد انتهى الدواء والمحامية المسؤولة، تأبى منحه رخصة دواء جديدة. 

 أغدق نقاد المديح على الموسيقى والصورة، لكنه فيلم شديد الكآبة، وأبدى آخرون بعبارات نادبة خيبتهم من الفيلم، وتذكّروا رائعة نولان "فارس الظلام"، الخالي من قيمة تفسيرية كبيرة سوى قيمة الصراع العام بين الخير والشر، فهو فيلم مغامرات تقليدي. نهار الجوكر ليل مثل أفلام هالوين، والجوكر يشبه بطل هالوين القاتل الذي فكّ قيوده، وضع قناعاً ثم انطلق يقتل، الجوكر مثله تحرر من قيود التداوي والأخلاق والأم والصداقة، وانطلق يقتل بقناع المهرّج.

 ولولا كل هذه الدعاية الهائلة لترك كثيرون الفيلم من ربع الساعة الأول من شدة الكآبة. قد نجد صورة للجوكر في فيلم العطر لمؤلفها باتريك زوسكيند، إنه يشبه الجوكر، شكله جوكر من غير قناع، القناع له قوة سحرية واقعية، مختلفة عن قدرات "الماسك" السحرية في فيلم المغامرات الماسك (جيم كاري 1994)، إنه يجعل الشخصية حرّة من روابطها الواقعية والأخلاقية.

 كلاهما غرنوي والجوكر آرثر فليك يتيمان بلا أب وبلا أم، وكان غرنوي يصنع العطور الخارقة، ويحاول الجوكر صنع النكتة المضحكة، وكان غرنوي بحاجة للحب، فتحول إلى قاتل مصادفةً، نكتة الجوكر الأولى زفرة عميقة فيها ألم ورثاء، هي نفسها حكاية روبرت بابكين عن أمه في فيلم ملك الكوميديا، حيث نجد صورة أخرى للجوكر في هذا الفيلم، إنها الحكاية نفسها، لكنها مأساوية هذه المرة، الناقد العراقي سعيد الغانمي يخرج بهذا الاستنباط في كتابه " خزانة الحكايات"، وهو أنّ كل كتاب هو حديث عن كتاب آخر، وكل قصة تروي قصة سابقة.

  فيلم "ملك الكوميديا" يروي حكاية روبرت بابكين الريفي الذي يسعى للظهور في برنامج شهير، ثم يخطف مذيعاً تلفزيونياً ويحلُّ محلهّ في تقديم النكتة، فيضرب السوق الإعلامي ونسب المشاهدة، ويصير من المشاهير الكبار، لكن الجوكر يقتل المذيع، الدم يتلف الكوميديا عادة، ذريعته في القتل هي أن المذيع يريد أن يجعل منه مسخرة للناس. في نهاية فيلم "العطر" يعود غرنوي إلى حارته، ثم يصبُّ العطر على نفسه فيؤكل مع ثيابه. الجوكر تنقذه الجواكر، غوثام مليئة بأصحاب الأقنعة الذين ينصبونه ملكاً عليهم ثم نراه في السجن.

  هذا القتل المجاني وجدناه من قبل في أفلام العصابات، وفي رواية "الغريب" لألبير كامو، في صورة ميرسولت الذي يقتل العربي لأن شعاع الشمس ضايقه، ولا يعنيه موت أمه شيئاً، ولا يأبه بالحكم عليه بالإعدام، ومع الرواية ظهر أدب العبث واللامعقول، كان فكرة مع سورين كيركجارد. ونجد صورة له أخرى من فلم "التانغو الأخير في باريس" وهو من الأفلام ذات القيمة التفسيرية العالية، البطل القاتل الذي يمكن أن يقتل بلا سبب، هو بطل نمطي في الأفلام الأمريكية.

  ضحكة الجوكر المدويّة قديمة في أفلام باتمان، وكانت ساخرة في أفلام الكوميكس، ضحكة الشيطان لا تزال نفسها، هذه المرة لها حكاية، فهي مرض نفسي، أضحت غير إرادية، حيث الحياة تشبه القمار، فالإنسان يمكن أن يتحوّل إلى بطل شهير بين يوم وليلة، ويمكن أن يتحوّل إلى مجرم بين ليلة ويوم. يذكّر مشهد الجوكر في بدلته الحمراء وهو يتجه إلى الاستوديو بمشهد كينغ كونغ وقد انطلق من عقاله.

 السبب الثاني في شهرة الجوكر أنّ الجنس ليس سبباً من أسباب القتل، ولا المال أيضاً.  كان يمكن أن نذكر خطاب الجنون في التاريخ العربي الذي يروي فيه بطولات المضحكين وأن نذكر مقتل المهرج خانياس في رواية سليم بركات "كهوف هيدا هوداهوس"، ومقتل المهرج في رواية "خريف البطريرك" لماركيز، المهرج كان ضحية فيها، فتلك روايات الدكتاتور التقليدية ودكتاتورية غوثام شاملة، والمهرج فيها جاني وضحية.

قريبا سنسمع بمرض أسمه متلازمة الجوكر.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024