خماسية بوتفليقة و"أبدية" بوتين

بسام مقداد

الجمعة 2019/03/15
يلاحظ أحد المواقع الإخبارية الروسية ، أن الأنظمة الأوتوقراطية تصنع ،عبر وسائل إعلامها ، عالمها الإخباري الخاص المختلف عن اليوميات الإخبارية المتداولة في العالم . وتبرز هذه السمة في الأنظمة الأيديولوجية وأنظمة الديكتاتوريات الشخصية، على وجه الخصوص ، حيث يتم تجاهل الكثير من الأحداث ، التي تتخطى إطار الصورة ، التي ترسمها الأنظمة للعالم . ويضرب الموقع المعني "rosbalt" مثالاً على ذلك مقاربة الإعلام الرسمي الروسي للحدث الجزائري ، حيث يتم تجاهله بصورة شبه كاملة تقريبا، ويرى أن السبب في ذلك قد يعود إلى صعوبة ربط هذا الحدث "بالمؤامرات الأميركية" ، حتى على إعلام مثل إعلام الكرملين، وإلى أن بوتين نفسه قد يقدم على الترشح لولاية خامسة، بعد رباعيته ، التي ينهيها في العام 2024 .

لكن كلام الموقع المذكور لا يعني أن الإعلام الروسي الرسمي وما حوله قد تجاهل الحدث الجزائري كلية، بل كان يغطيه "بحيادية" لافتة، لا تحول دون تركيز انتباه المتلقي الروسي على "النصر" الروسي على "داعش"، وجرائم الولايات المتحدة وحلفائها ضد المدنيين في المعركة الأخيرة ضد هذا التنظيم. وتميزت التغطية القليلة ، التي حظي بها الحدث ، بالتركيز على المخاطر التي يشكلها على المصالح الروسية في العلاقات التاريخية مع الجزائر. فقد كتبت صحيفة الكرملين "VZ" في 13 من الجاري تقول ، بأن الشراكة المهمة لروسيا مع الجزائر "تنتظر الإختبار" . وتشير إلى ان التعاون بين روسيا والجزائر لا يقتصر على مجال النفط والغاز فحسب، بل تنويان بناء أول محطة نووية لتوليد الكهرباء في أفريقيا ، وأن حجم التبادل التجاري بينهما بلغ العام الماضي 4,5 مليار دولار .

وتقول الصحيفة، أن القيادة الفعلية انتقلت في السنوات الأخيرة إلى شقيق بوتفليقة سعيد وقائد الأركان العامة أحمد قايد صالح ، الذي درس في روسيا ، ويرى أن الجيش في الجزائر ، وكما في معظم البلدان العربية ، يشكل العمود الفقري للدولة.

وإذ لا تتحدث الصحيفة عن أي دور للجزائريين المنتفضين على القيادة الحالية في مستقبل الجزائر، ترى أن المفاوضات بين أجنحة السلطة القائمة هي الكفيلة بتحديد مسار الأمور، وأن جميع هذه الأجنحة متفقة على عدم العودة إلى الوضع في مطلع التسعينات.

وتختتم الصحيفة مقالتها، التي كتبها نائب رئيس تحريرها، بالكثير من التفاؤل المستند إلى "الإنتصار" السوري ، بالتأكيد ، على أن الجزائر وسوريا هما الدولتان العربيتان، اللتان دعتا دائماً إلى علاقات وثيقة مع روسيا ، ولم "تشردا نحو الأميركيين"، ولم يسبق لهما أن تخاصمتا معها أو عبرتا عن الإستياء منها. وهي متأكدة من أنه ، على الرغم من أنه ليس من المعروف من سيرث بوتفليقة ، إلا أن تقاليد مثل هذه العلاقات مع روسيا سوف تحافظ عليها اية قيادة جزائرية اخرى.

وعلى العكس من ثقة صحيفة الكرملين باستمرار العلاقات مع الجزائر في ظل أية قيادة جزائرية جديدة ، يرى موقع الهولدنغ الإعلامي الكبير "RBK" ، أنه ليس من المستبعد أن تعمد القيادة الجزائرية ، التي ستحل مكان بوتفليقة "نتيجة الإحتجاجات، أو لأسباب طبيعية" ، إلى إعادة النظر في علاقات الجزائر السياسية والتجارية مع روسيا، لصالح تعزيزها مع أوروبا. ويرى الموقع ، نقلاً عن خبير روسي في العلاقات الخارجية ، أن المعارضة تضم في صفوفها عناصر كثيرة موالية للفرنسيين وللأميركيين ، والتي لا تعرف سوى القليل عن دور الإتحاد السوفياتي في تحرير بلدها من الفرنسيين. وينقل الموقع عن هذا الخبير قوله بأن تنوع المعارضة الجزائرية يجعل من الصعب حتى الآن تسمية مرشح يمكنه أن يطمح لدور الزعامة السياسية. لكنه يؤكد أن الزعيم غير الرسمي لخصوم بوتفليقة الحاليين هو الملياردير الصناعي أسعد ربرب المعروف بتوجهه الأوروبي . لكن ربرب هذا البالغ من العمر 74 عاماً ، لم يفصح عن أية طموحات رئاسية ، إلا أنه في الواقع هو الزعيم غير الرسمي للمعارضة ، وليس من شخصية أخرى بوسعها تزعمها ، برأي هذا الخبير.

أما مركز كارنيغي في موسكو فيتساءل "لماذا تأخر "الربيع العربي" ثماني سنوات عن الجزائر" . ويرى المركز أن ليس من المستبعد أن يكون قرار تأجيل الإنتخابات الرئاسية وتخلي بوتفليقة عن الولاية الخامسة ، هو السيناريو الأفضل بالنسبة للعسكريين والمقربين من بوتفليقة ، الذي يتيح لهم الإحتفاظ بمقاليد السلطة. ويقول المركز أن "الربيع " العربي" لم يلامس الجزائر في العام 2011 إلا قليلاً ،  وذلك لأن ذكريات "العشرية السوداء" كانت لا تزال طرية جداً في ذاكرة الجزائريين ، ولأن بوتفليقة أقدم حينها على عدد من الإصلاحات ، التي كانت ضرورية .

لكن بعد مرور 8 سنوات منذ ذلك الحين، أجبرت احتجاجات الجزائريين بوتفليقة على مغادرة السلطة التي احنفظ بها 20 عاماً .  غير أن تجربة البلدان العربية الأخرى خلال هذه السنوات يشير إلى أن مغادرة السلطة من قبل رئيسٍ هرمٍ ، قد لا يكون خاتمة سعيدة للأمور، بل بداية أزمة عميقة ، كما كان الأمر في كل من مصر حسني مبارك وتونس زين العابدين بن علي.

ومع أن المركز يعترف بأن ما يسميه "الدورة الأولى" من "الربيع العربي" تجعل من الصعب التنبؤ بالمستقبل في أي بلد عربي، إلا أنه يقول بأن الجزائر يمكنها أن تسلك طريق الديموقراطية في تونس ، أو أن تنتج بوتفليقة آخر، محاولةً في ذلك تجنب الوقوع في أخطاء ماضيها وماضي جوارها.

القول بإمكانية الخيار الديموقراطي للإنتفاضة الجزائرية لم ينفرد به مركز كارنيغي في موسكو ، بل يوافقه في ذلك ليبراليون روس رحبوا بتحفظ بالإنتفاضة الجزائرية . فقد نقل موقع "kasparov" عن أحد الكتاب السياسيين الروس المعارضين قوله أن الإنتفاضة الجزائرية تظهر أن ثمة شرخاً عميقاً بين الجزائريين والطغمة الحاكمة ، وأن هذا الشرخ قد "يفضي إلى الديموقراطية في الجزائر" .

وكان الموقع المذكور قد نشر مقالة "تحت عنوان " يمكن لميت أن يدير الأوتوقراطية ، لكن ليس إلى الأبد" ، جمع فيها أقوال عدد من المعارضين الروس حول الحدث الجزائري، كان أبرزهم معارض الكرملين الرئيسي ألكسي نافالني. وقد استخدم نافالني، غير المعروف بليبراليته ، الحدث الجزائري لدعوة الروس للإقتداء بالجزائريين والنزول إلى الشارع ورفع صوتهم ضد نظام بوتين . ونقل الموقع عن معارض آخر قوله "يبدو أن العالم قد نقص ديكتاتوراً ، انتظروا من التلفزيون (الروسي) ريبوتارجات عن حبائل أميركا" . وقال بأن الإسلاميين يبدو أنهم مهمشون الآن ، والنظام الجزائري يتحول وفق نموذج تونس المجاورة .

قد تكون ردة فعل المعارضين الروس على الحدث الجزائري هي الأكثر استفزازاً لنظام الكرملين، إلا أن طبيعته الأتوقراطية بذاتها تهتز لدى سقوط أي استبداد في العالم ، فهو بحاجة لخماسية بوتفليقة وأبدية الأسد وديكتاوتورية ماديرو من أجل ترسيخ "أبديته"، التي يهيئ لها كافة شروط دوامها داخل روسيا وخارحها.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024