من غير ورقة توت

أحمد عمر

السبت 2018/12/29

إشتقّت العربية العار من العري، وكانت طلائع الاستعمار الحديث تستبيح قتل الوثنيين في أفريقيا وأمريكا لأنهم مستعمرون، ويضيفون سبباً جانبياً للقتل: أن "السكان المحليين"، عراة. ودار الزمان قرناً فصار السكان غير المحليين مثلهم في التعري. أظهر رسامو الغرب خيالاً وصف بالاستشراقي في رسم الجواري والحمامات في الأسواق العربية تظهر فيه الجواري عاريات، على ما هو قائم في أذهانهم عن صورة الآخر، وهو محض اختلاق، ويتداول شعوبيو فيسبوك المستغربون اللوحات كقرينة على فظاعات الفاتحين العرب. نعم كانت الأسرى تباع عبيدا، لكن غير عراة.

دارت الأيام حتى صارت الأنثى العارية بالبكيني علامة تجارية لكل أنواع البضائع، وأضيفت إليها السياسة كبضاعة. بالأمس القريب شغل فستان رانيا العربَ أسبوعين، وخرجت من المعركة منتصرة، وظهرت بزيّ ذهبي هذه المرة، ونقل عنها أنها قالت: إنها جاهزة لخدمة مصر!  فكأن زيها هو زي المرأة السوبرمان، وكأن مصر تباع، وكأنها قائد حملة عسكرية. وظهر ممثل سوري في مسارح تونس عاريا، اجتهد للبرهان على أن عريه رسالة فنية في مجتمع لا يفهم هذه الرسائل، ولم يقتنع بها أحد. الرسالة لها طوابع، وورقة توت.

واحدة من أشهر جملة في مسرحية "شاهد ما شف حاجة هي: "من هضوم وإلا من غير هدوم". والهدمة استعارة من البنيان والعمران والجدران لشخص الإنسان. ولا يختلف اثنان على أن أهم البلاد العربية عارية ومغرية بالغزو والاحتلال لأنها بالبكيني صيفاً وشتاء. قال الصحافي الفلسطيني الملقب بأبي كلبشة، وسبب لقبه هو حبه للكهانة والتنبؤ السياسي الذي لم يصب ولا مرة، ولله الحمد والمنة: إنه يظنُّ أن القصف الأخير لسوريا سيكون الأخير. وساق أسباباً ثلاثة: أولها الغضب الروسي "الساطع" من قصف الصديق الإسرائيلي القديم للصديق الجديد، والثاني استحواذ سوريا على صواريخ اس 300، والثالث هو اعتراف إسرائيل بأن صاروخاً سورياً سقط قرب مدينة حيفا، بالحاء وليس بالهاء. وأضاف أملاً رابعاً هو ان نتنياهو سيسقط في الانتخابات القادمة بسبسب فساده، وأخفى المحلل الفلسطيني الكاهن، الذي يظهر في فيديواته كأنه خارج من وطيس معركة بأن الأسد سيفوز بعد أن انتصر على العالم كله في انتخابات لا يشك أحد بنزاهتها!

لم يظهر الرئيس السوري حافظ الأسد إلا بالزي الرسمي الكامل، بل إنه في أواخر حياته لم يعد يظهر حتى في مناسبات مقدسة أمام البرلمان، وكان يرسل خطابه مكتوباً، ضاناً على أعضاء البرلمان الذين انتخبتهم المخابرات من تكحيل عيونهم برؤيته بالزي الرسمي، وعُدَّ ظهور ابنه بزي صيفي (نصف كم) عطاءً من الرئيس للشعب، فيه منّة، وتحولاً في الدبلوماسية السورية، في حين أن الشعب كان عارياً دوماً، تعرف المخابرات عنه كل شيء، ولا تستره ورقة توت الدستور، وجاء وقت صار عارياً من الدستور والبيت والوطن، مكشوفاً في العراء كشفاً مطلقاً لا شيء يستره من الخارج ولا لقمة تسنده من الداخل.

قرأنا في المرحلة الابتدائية قصة رهان بين الريح والشمس، أيهما يجعل عابراً يخلع معطفه، فعجزت الريح عن خلع ثوب الرجل بكل رياحها وعواصفها، وجاء دور الشمس فأشعلت قلبها حباً، فخلع الرجل ثيابه، وفازت الشمس بالرهان. القوة الناعمة انتصرت على القوة الخشنة.

جادل مجادلون في النقاش حول فستان رانيا، فذكروا الشواطئ التي يتعرى فيها الرجال والنساء، وليس السجاد الأحمر كالساحل، وقد جعلت وسائل التواصل الزرقاء الحياة الافتراضية ساحلاً أزرق يخلع الناس فيه أثوابهم وعقائدهم، وقد كانوا يعيشون وراء أستار حديدية.

أتاح المنفى الأزرق حرية تجعل النازح إليه يخلع ثيابه كلها رغبة في الظهور والشهرة. خذ مثال مؤسس "مؤمنون بلا حدود"، ومثال المخرج السوري محمد بايزيد، لا أقول خلع اللبس، وإنما خلع النفس، والشهرة ذئب، وكان الذئب في قصة يوسف قد ترك قميص يوسف.

أغلب الظن أن تعري نساء الحركات النسوية في روسيا والغرب يستبطن إهانة الساسة، ويعترف ضمناً بعار العري، قولهم: لا نقدر أن نعريكم، سنتعرى نحن لنظهر عاركم. هذا لا يعني تسديداً لحركتهم التي تظاهرت ضد محمد مرسي الذي لم يحبس أحداً قط، ولم تتظاهر ضد خصمه الذي عرّى مصر كلها حتى من عباءة الأمن القومي. القصد: إن تعري النسويات يضمر سبباً أخلاقياً ودينياً في العري.

هناك شواطئ عراة في المانيا، حاول صحافي أمريكي أن يكتب تقريراً عنها، فلم يستطع أن يتعرى، ودخل وهو يستر سوأته بمنشفة، وكان مذهولاً من العري و"جرأة" الشعب الألماني. وأمس تابعنا مقطعاً من برنامج "إسأل ستيف"، ستيف مذيع أمريكي من أصل إفريقي، وأحد ملوك الكوميديا المرتجلة، وصاحب كتاب " تصرَّفي كسيِّدة وفكري كرجل"، يقدم فيه النصائح لبنات "المواعدة"، ويذكّر من طرف الطرافة والتلميحات الجنسية، ببرامج الشيخ السوري فتحي الصافي الذي وجدت فيه الطغمة السورية صيداً مفيداً، فمنحته برنامجاً إذاعياً للفتوى. برنامج المفتي ستيف مكتظ بالتلميحات الجنسية، وفي المقطع تسأل صبية ستيف عن رأيه في المشاركة في برنامج "ريلتي" شاركت فيه عارية مع أحد الذكور، فضحك وقال: إنه لن يقبل بالتحدي حتى لو كانت الجائزة مليون دولار.

تعاقب قوانين الغرب الذي نحتذي به، في كل شيء إلا في الخير، الرياضيين الذين يتعرون في الملاعب، لاعب كرة القدم يعاقب إذا خلع قميصه فرحاً بهدف، وأمس عوقبت لاعبة التنس الفرنسية أليزا كورنا لأنها غيرت قميصها أمام الناس في الملعب فخسرت نقطة، وخسرت المباراة أمام منافستها السويدية أيضاً.

خلع الثياب يجب أن يكون في غرفة خاصة، وهو ما نعجز عن فهمه أحياناً. ونختم بما قيل سابقاً: وهو أن قصة الثورة السورية هي قصة الإمبراطور العاري. وقد انتهت بأن الإمبراطور فزع من صيحة الطفل، فأمر بقتله والمدعوين والشعب جميعاً، لستر عورته بدمائهم.

 الأمهات السوريات عاريات في المعتقلات والمخيمات، وفي المحيطات، وعلى أعتاب القارات، ولا خشمان يثأر لهن.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024