حرب باردة جديدة

شادي لويس

الأربعاء 2020/08/12
سوء إدارة التعامل مع الوباء ونسب البطالة العالية وتراجع شعبيته في استطلاعات الرأي، ربما دفعت الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى تصعيد حربه التكنولوجية ضد الصين. يبقى أمام تطبيقي "تيوك توك" و"وي تشات" الصينيين، أربعون يوماً، قبل أن يصبح القرار الأميركي بمنع التعامل معهما سارياً. ويمهل ترامب شركة مايكروسوفت بعض الوقت، لإتمام صفقة شراء "تيك توك"، وليس أمام التطبيق الكثير من الخيارات الجيدة سوى البيع، الذي إن تم، سيُحسب انتصاراً قومياً كبيراً لترامب، ومادة دسمة للدعاية الانتخابية. ويواصل وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، التصعيد، مصرحاً بإنه يبتغي "تنظيف الأنترنت من التطبيقات غير الموثوقة"، ويشير بعدها إلى الصين.

ويرى البعض في تلك التصريحات، مجرد تكتيك تفاوضي، مارسته الإدارة الأميركية العام الماضي، للضغط على الصين لإعادة بعض التوازن إلى الميزان التجاري المائل لصالحها، لكن الأمر يبدو أبعد من ذلك. فرغم خلافاتهما، يبدو الجمهوريون والديموقراطيون متفقين، أكثر من أي وقت مضى، على ضرورة مواجهة الصين. الحملة الأميركية ضد شركة "هواوي"، انضمت إليها المملكة المتحدة التي استبعدت الشركة من إنشاء شبكة الجيل الخامس، بل وحتى حزب العمال البريطاني المعارض صرحت قياداته أكثر من مرة بأن الصين هي التهديد الاستراتيجي الأول للمملكة المتحدة. وبالطريقة نفسها مارست الإدارة الأميركية ضغوطاً على دول أخرى لمقاطعة الشركة.

كانت السياسة الأميركية الهادفة لاحتواء الصين، مدفوعة بمنطقين. الأول، هو عزل الاتحاد السوفياتي أثناء الحرب الباردة. أما الثاني، فكان مؤسساً على قناعة إيديولوجية لدى صناع القرار الأميركيين، بأن تحرير السوق والاندماج في المنظومة المعولمة، يقود في النهاية إلى تبني النموذج الديموقراطي الغربي، والصين سوق هائلة أيضاً للمنتجات الأميركية، ومصدر رخيص للأيدي العاملة الرخيصة والمواد الخام أو نصف المصنعة. الوتيرة المتسارعة لنمو الاقتصاد الصيني واحتلاله المرتبة الثانية عالمياً، وتوقع تجاوزه للولايات المتحدة واحتلاله المرتبة الأولى في مدى عقدين أو ثلاثة.. كل هذا بالطبع شكل تهديداً لم يكن متوقعاً للريادة الاقتصادية الأميركية. لم تتفكك الصين داخلياً، ولم تصبح أكثر انفتاحاً على الغرب، بل العكس. لكن الخطر تبدى أكثر وضوحاً مع تهديد الشركات الصينية للهيمنة الأميركية على مجال التكنولوجيا الرقمية، الإنترنت والاتصالات. فالمقارنة بين "أمازون" و"علي بابا"، أو "تيك توك" و"فايسبوك"، ما زالت في صالح الأميركيين، وبفارق هائل، لكن ليس لوقت طويل على ما يبدو. ففي الربع الأخير، على سبيل المثال، ورغم الحملة الأميركية، حظيت شركة "هواوي" بأعلى مبيعات للهواتف الذكية عالمياً، لتأتي "سامسونج" بعدها بفارق معتبر. أما "تيك توك"، فأصبح التطبيق الأكثر تحميلاً في العالم.

تظل الريادة الأمريكية أكيدة، وبلا أدنى تهديد، لكن احتكار الشركات الأميركية الكبرى للعالم الرقمي، لا يبدو قادراً على الاستمرار من دون دعم سياسي قوي. فإن كان جزء من دعاية ترامب الانتخابية، يعتمد على الترويج بأن الولايات المتحدة فقدت مصانعها وصناعتها الثقيلة لصالح الصين، فماذا لو فقدت أيضاً جزءاً من حصتها في العالم الرقمي!

قدرة الصين على استعادة مستويات إنتاجها إلى معدلات سابقة للكورونا، بينما ما زالت الولايات المتحدة تتخبط في مواجهة الوباء، وتعيد فرض إجراءات الإغلاق، كل ذلك ضخم الشعور بالخطر في العواصم الغربية.

المعارك المتواصلة وتوسيع نطاقها يهدد بتقسيم شبكة الإنترنت. الصين بلا شك في وضع أضعف على كافة المستويات، لكن الخسائر الأميركية، في حال فقدان سوق هائلة بحجم السوق الصينية، لا تبدو هينة. التهديد المستمر من شأنه أن يدفع بكين إلى المزيد من الاعتماد على التكنولوجيا المحلية، والتخلي عن استخدام أنظمة التشغيل الأميركية، مما يعنى فقدان الأميركيين لميزة اعتمادية الصناعة الصينية على البنية التحتية الأميركية. تبدو الحرب شبة صفرية، أو على الأقل بكلفة هائلة على الطرفين، وفي كل الأحوال علامة على تفكيك منظومة العالم الرقمي التي نعرفها.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024