وباءان وعالَمان

شادي لويس

الأربعاء 2021/05/05
وصلتني الرسالة النصية في موعدها، كانت هيئة الصحة العامة البريطانية قد أعلنت قبلها بساعات عن البدء في تطعيم المواطنين فوق سن الأربعين. وفي الصباح التالي، تلقيت الجرعة الأولى، كان مركز التطعيم على بعد محطة قطار واحدة، تطلب الأمر بضع دقائق لا أكثر للوصول. وفاجأني الشعور الطاغي الذي انتابني، بالامتنان، وبحرارة شديدة شكرت بها الممرض بعدما حقن ذراعي اليمنى، بأسترازنيكا. وبدت على الشاب ذي الملامح الهندية، المفاجأة أو الدهشة، ولعلني بالغت في التعبير عن مشاعري، قلت له شيئاً عن المجتمع والتضامن، كنت منفعلاً لدرجة إنني لا أتذكر ما قلته بوضوح الآن. ثقل عام وأكثر من الخوف سقط عن كاهلي فجأة. ثلثا البالغين في بريطانيا تم تطعيمهم بالفعل، والحياة تعود تدريجياً. بعد أقل من شهرين، سيكون الجميع قد تلقوا تطعيمهم، على الأقل بجرعة واحدة، وبنهاية شهر يونيو ستكون غالبية القيود قد رفعت بالكامل، حتى الملاهي الليلية ستفتح أبوابها أخيراً.


كانت إمكانية حصولي على اللقاح ضد كورونا، قبل أن تتلقاه والدتي في القاهرة، فكرة تؤرقني منذ البداية، فأي منطق هذا الذي تفرضه تقسيمة الشمال والجنوب! وحين ندرك أن امتيازات بعينها لا يمكن حتى التخلي عنها لصالح شخص آخر أكثر حاجة منا، يصبح هذا الامتياز عبئاً من نوع خاص. ففي ظل التفاوت في حصص التلقيح، بين هنا وهناك، تصبح التضحية حتى غير ممكنة، فلا يمكنني مثلاً أن أتنازل عن لقاحي لصالح أمي وهي تعيش في بلد آخر، في الجنوب.

إلا أنه وبضربة طيبة للحظ، حصلت والدتي على الجرعتين قبلي بشهر، والكثير من الأصدقاء في القاهرة، مصريين وأجانب، وبعضهم أصغر سناً مني، حصلوا على اللقاح أيضاً، بجرعتيه، وقبلي بأسابيع. أعفتني تلك الأخبار السعيدة من الشعور بالذنب.

يوم الإثنين، كان عدد الوفيات قد هبط في المملكة المتحدة، إلى ضحية واحدة. عدد الإصابات في تراجع مضطرد، وكذلك الحالات الحرجة في المستشفيات. الرقم صفر من الوفيات متوقع في خلال الأيام. ولا يعكر تلك الأخبار السارة، سوى الصور القادمة من الهند، الجثامين المكومة في الشوارع، وحرائق الجثث الهائلة. في مصر، ورغم فقاعة الأمان الصغيرة لدائرة الأقارب والأصدقاء الملقّحين، فنسبة لا تتجاوز الواحد في المئة من السكان حصلت على اللقاح. ولا أحد يعرف كم سيحتاج الأمر لتلقيح نسبة كافية للوصول إلى مناعة القطيع. فواحد في المئة فقط استغرق أكثر من شهرين. الموجة الثانية أو ربما الثالثة، قد تضرب الصعيد بعنف، ووزارة الصحة تعلن تجاوز عدد الضحايا من الأطباء عتبة الخمسمئة وفاة. فكيف سيكون الوضع بعد ستة أشهر، حين تتباطأ فاعلية التلقيح أو تزول؟

الصين تتجاوز الولايات المتحدة في عدد اللقاحات، أكثر من ربع مليار مواطن تم تلقيحهم، وتتخطى هذا الأسبوع معدل العشرة ملايين لقاح يومياً، لكن الولايات المتحدة تظل متقدمة عليها في نسبة الملقحين مقارنة بعدد السكان. جنوبي الحدود الأميركية، الوضع يزداد مأساوية، في المكسيك وبقية أميركا اللاتينية، القارة الأكثر معاناة من الوباء حتى اليوم. الأوروبيون يتحركون ببطء، لكن مع نهاية الصيف ستكون الأمور تحت السيطرة. لا أحد يعرف حقاً ما يحدث في أفريقيا على وجه الدقة. الإحصاءات الرسمية في روسيا، تكشف سقوط أربعمئة ألف ضحية للوباء خلال العام الماضي، أضعاف الأرقام المعلنة قبلاً.

تعيد حملات التطعيم ترسيم الحدود، بين وباءين، وبين عالَمين، ربما سيغلق كل منهما على نفسه بالكامل قريباً جداً. الكارثة الهندية التي لم تلامس حدود مأسويتها بعد، قابلة للتوسع وللتكرار، والانتقال بسرعة والتمدد. الجزائر البعيدة، والتي نتخيلها مغلقة دائماً، تعلن اكتشاف أول حالة من سلالة البنغال ثلاثية التحور. غالبية الدول توقف السفر من الهند وإليها، حصار غير مقصود لكنه حقيقي، قطيعة كاملة عن العالم. مالطا وإسبانيا واليونان، تتأهب لموسم السياحة الصيفي واستقبال الزوار الأوروبيين، وخطط للسفر أيضاً إن سمحت الظروف. والسلالة البرازيلية تقتل من هم تحت الأربعين. يمكن تأجيل الشعور بالذنب بالطبع، لكن ليس لوقت طويل.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024