سوريا أرض الموت للروس

بسام مقداد

الخميس 2020/08/20
الروس ومواقع إعلامهم منهمكون عن مقتل جنرالهم فيتشسلاف غلادكيخ ، الثلاثاء في 18 آب الحالي في سوريا ، بملاحقة تطوات الوضع في شقيقتهم الصغرى بيلاروسيا . وزارة الدفاع الروسية في بلاغها ، الذي أذاعته عن مقتل الجنرال اكتفت بذكر رتبة الجنرال ومهمته كنائب لكبير المستشارين الروس في سوريا  ، لكنها لم تنشر لا إسمه ولا صورته ، وتبعتها في ذلك تاس ونوفوستي ، مما دفع صحيفة مركزية موالية مثل كومسومولسكايا برافدا للتوقف عند الأمر .  هو الجنرال الروسي الرابع ، الذي يقتل في سوريا منذ العام 2015 ، ويتطابق مع عدد الجنرالات الروس ، الذي قتل في أفغانستان طيلة 10 سنوات  . الأرقام الدقيقة لخسائر روسيا البشرية في أفغانستان ، ليست معروفة حتى الآن ، بعد مرور أكثر من 40 عاماً على الإنسحاب السوفياتي من هناك . الأرقام المتداولة عن الخسائر الروسية البشرية في تلك الحرب ، هي أرقام متعارف عليها ، حسب غوغل الروسي ، الذي يقول ، بأن عدد العسكريين الروس الذين خدموا في أفغانستان بلغ أكثر من 600 الف عسكري ، قتل منهم أكثر من 11 ألف جندي وصف ضابط ، وأكثر من 200 ضابط . فهل على الروس إنتظار 40 عاماً ليعرفوا أن سوريا تحولت إلى أرض موت لهم ، كما كانت عليه أفغانستان ؟ 

وزارة الدفاع، التي لم تعلن إسم الجنرال ، واكتفت بإعلان رتبته ، قالت بأنها تقدمت من أسرته بالتعزية ، ووعدتها بالحصول على كامل المستحقات المتوجبة ، وترشيح فقيدها للوسام المستحق . أما هيئة التحقيق الفدرالية ، فقد أعلن رئيسها بأن رجال الهيئة في سوريا يقومون بالتحقيق الجنائي في "جريمة" مقتل الجنرال ، واعتبر أن القضية ليست تقنية فحسب ، بل هي "مسألة شرف". 

الصورة الأولى ، التي طالعتني للجنرال القتيل ، كانت على موقع صحيفة "Novaya " الليبرالية المعارضة ، وعلى موقع إذاعة "الحرة" الناطقة بالروسية . ولم يتعد النص المرافق للصورة في الموقعين نبأ مقتل الجنرال ، كما أعلنه المكتب الإعلامي لوزارة الدفاع . لكن كانت لافتة تعليقات القراء الروس ، التي أعقبت النص على موقع "الحرة" ، وبلغت ، حتى اليوم التالي ، 45 تعليقاً ، يحسده على عددها أي موقع إعلامي عربي . تميزت جميعها بانتقادها اللاذع للوجود الروسي في سوريا ، بل والتشفي بمقتل الجنرال ، وكيل الشتائم للرئيس الروسي بوتين . بدأ التعليقات أحدهم بالقول "عما كان يبحث هناك؟" ، وتبعه آخر "هذا ما يستحقه ، لقد أقاموا جحيماً في سوريا"، وثالث "بوتين ، إذا كان أحد لا يزال يذكر ، وعد على مسمع البلاد كلها ، بأن العملية ستكون من الجو فقط ، ولن يقتل عسكريونا تحت أي ظرف كان . هاك ، صدقه بعد هذا. تيتمت أسرة أحدهم ، وهو حتى لم يعتذر على الكذب..." . 

قد تكون أسماء البعض من بين أصحاب التعليقات مستعارة ، وهذا أمر مفهوم في ظل نظام الكرملين ، وقد لا يكون البعض منهم مقيماً في روسيا ، لكن ما تشهده مدينة خاباروفسك وسائر مدن الشرق الروسي ، في الأسابيع الأخيرة ، من شعارات معادية لبوتين يرفعها المتظاهرون ، ويدعون فيها روسيا للنهوض ضده ، يجعل مما جاء على لسان هؤلاء القراء عادياً ومنسجماً مع ما يعانيه الروس من ضيق عيش وكم للأفواه . يتوجه أحدهم إلى الجنرال القتيل بالقول " ما الذي نسيته هناك ، من أجل ماذا قُتلت ؟ من أجل المفاخرات الرخيصة لمن صَفّر فترات رئاسته (الرئيس بوتين) ، من أجل نقود بريغوجين (طباخ بوتين) ؟ لقد استبدلت الوسام بالحياة . لكن الشعب لن يقدر "بطولتك"" . وتقول قارئة "لقد جهدت سلطتنا في خلق الإشمئزاز من الجنرالات المعاصرين ، حتى باتت التعزية غير ممكنة . لكن يمكن تعزية الأهل ودعمهم في مصابهم" ، ويتأسف قارئ على شباب الجنرال ، ويقول بأنه "لا شك ، هو إبن أحد ما ، وصهر أحد ما . لقد اعتقد بأنه لا يمس" ، ويخاطبه آخر بقوله "أنت ضيف (في سوريا) غير مدعو" . 

بعض من القراء كتب تعليقات ساخرة تنضح شماتة بميتة الرجل . أحدهم يقول "مهمة "إنسانية"، قطعها لغم  "لا يقل إنسانية ..."" ، و"شكراً لله ، سيكون الفاسدون أقل" ، و "كلما كانوا أكثر(القتلى) ، كلما كان أفضل" ، و"نبأ جيد جداً " و"إنه سعيد" ، و "سماد جيد" ، و"ماذا كان يفعل هناك ؟ جنرال ـــــــــ ميجور! مبشرون ، سفلة" ، و"لاهاي لا تنسى" ، "فلتكن الأرض لك من صوف الزجاج"(بدلاً من زغب ريش الطير ، وفق تعبير العزاء الروسي التقليدي) . 

البعض يتخوف من أن سوريا أصبحت تذكر بأفغانستان "أكثر فأكثر" ، والبعض يتهم الكرملين مباشرة ، إذ يقول أحدهم "اعتبروني شخصاً قاسياً جداً ، لكنني لن أنطق بكلمات العزاء ، لأن الإنسان يختار مهنته بنفسه . لقد ذهب إلى سوريا للدفاع عن مصالح بوتين ، وليس روسيا ... أجل هو عسكري ، والأوامر لا تُناقش بل تُنفذ ، لكن كان بوسعه الإستقالة . ولذا ، كلا ، لست آسفاً ، سيما وأنا أعرف كيف يقصف العسكريون الروس المواطنيين المسالمين ... "عمليات إنسانية" على الطريقة البوتينية ... وبعدها يبدأ العسكريون عملهم ". ويتبعه آخر بالقول "لقد كان يدافع عن طاغية .  كان من الأفضل أن يدافع عن وطنه ضد طاغيته ..." 

تشير هذه التعليقات إلى أن موقف الروس حيال مشاركة الكرملين في المقتلة السورية ، ومسؤوليته عنها ، قد تغير كثيراً عما كان عليه في العام 2015 ، إذ أصبح من الممكن مصادفتها في ذيل نصوص صحيفة الكرملين المتعلقة بالوضع السوري . إلا أنه لا ينبغي المغالاة في تقدير هذا التغير ، إذ لم يتحول إلى بند في برامج الأحزاب السياسية الليبرالية ، ولا شعاراً من شعارات الإحتجاجات الشعبية المتواصلة منذ 11 الشهر المنصرم في خابارسك وسائر مناطق والشرق الأقصى الروسي  . ونصوص المواقع الروسية ، التي تناولت مقتل الجنرال الروسي ، لم تخرج عن نمطها المعهود في غياب محنة الشعب السوري عنها ، والبحث عن الغرب في مقتل الجنرال . فقد كتبت صحيفة "كومسومولسكايا برافدا" المركزية في 19 من الجاري نصاً بعنوان "مقتل الجنرال الروسي ، هو خيانة المحليين ، أو "تحية" من الأميركيين" ، وقالت بأن الإنفجار ، الذي قتل فيه الجنرال مع قائد الدفاع الوطني في مدينة الميادين محمد تيسير الظواهري ، هو اعتداء قد يكون من تنظيم مقاتلي "الدولة الإسلامية" المتبقين ، او الأميركيين "كلاب حراسة آبار النفط" في دير الزور . وتنقل عن مصدرها الذي لم تفصح عنه ، "والذي كان في سوريا غير مرة" ، بأن اللغم انفجر تماماً في لحظة مرور سيارة الجنرال ، مما يشير إلى المعلومات الدقيقة لدى المفجرين . وهذا يشير برأي مصدر الصحيفة إلى أن التفجير إما خيانة من جانب السوريين ، وإما أنه تفجير إرهابي من قبل محترفين من المخابرات العسكرية الأميركية .

موقع "تسارغراد" المغمور ينقل ن دبلوماسي روسي سابق متخصص بالشؤون العربية نفيه مسؤولية بقايا "الدولة الإسلامية" عن التفجير ، ويحصر المسؤولية بالأوروبيين والأميركيين . ويعتقد هذا الدبلوماسي السابق ، بأن الجنرال قُتل إما لأنه عزز موقعه في المفاوضات حول مصالح جيوسياسية في المنطقة ، وإما لأنه أصبح عقبة في وجه تنفيذ مخططات ما داخل سوريا نفسها .

صحيفة القوميين الروس "sp" بدورها كتبت مقالة في 19 من الجاري بعنوان "الحرب انتهت ، لكن الجنرالات الروس يستمرون في التساقط" ، نقلت فيها عن خبير عسكري روسي نفيه القاطع أن يكون مقتل الجنرال غلادكيخ مجرد صدفة ، بل هو عمل مخطط استند إلى معلومات دقيقة من مخبر أو أكثر في دير الزور يعمل لصالح الإرهابيين السوريين ، أو لصالح مخابرات دول أجنبية ، لم يحددها ، وهو ما ستكشفه التطورات لاحقاً.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024