هزيمة النيوليبرالية الأولى

شادي لويس

الأربعاء 2020/10/28

خرجت مباشرة، بعدما وضعت حقائبي في الفندق. لم يكن فندقاً، أو لم يشبه الفنادق كما توقعتها. بدا المبنى الأسمنتي الهائل على شكل حرف "يو"، مثل سجن من عشرين طابقاً، تتخلله شبكة من الطرق وعلى جانبيها تتراص مئات الحجرات الصغيرة كالزنازين. بكاء الأطفال الذي اختلط بين حوائط المبنى وانتقل من طابق إلى آخر كان موحياً بأن عائلات بأكملها تسكن غرف المبني.

حينها، قبل عام تقريباً، كنت أسير للمرة الأولى في وسط العاصمة التشيلية، سانتياغو، غادرت الفندق إلى الشارع التجاري مانويل رودريغوس، قاصداً الميدان الرئيسي في المدينة، ساحة السلاح. كنت قرأت عن الأول في بضع قصص قصيرة لكاتبي المفضل، روبيرتو بولانيو، أما الميدان فبقي في ذاكرتي، بفضل قصيدة عنه لرودريغو ليرا، الشاعر التشيلي الذي لم ينشر كتاباً في حياته، ومات منتحراً في العام 1981 وهو في الثانية والثلاثين من عمره.

كانت الحرارة شديدة مطلع نوفمبر، ربما تتخطى الثلاثين درجة، وسماء المدينة تحجبها طبقة رمادية من الغبار، بشكل ذكرني بسماوات القاهرة. التوقعات التي وصلت بها إلى عاصمة الاقتصاد الأكثر ازدهاراً في أميركا اللاتينية سرعان ما تبددت. المتسولون وصفوف الباعة الجائلين بعلامات البؤس على ملابسهم ووجوهم التائهة، رائحة البول التي تفوح من الأركان، والأرصفة المغطاة بطبقة سميكة من الوسخ شحمي القوام، كل ذلك ترك انطباعاً حزيناً عن المدينة التي بدت محطمة تماماً.

شهور من الاحتجاجات والمواجهات العنيفة مع الأمن، غطت كل شبر من واجهات المباني بالغرافيتي والمجلات الثورية، عيون ضخمة يسيل منها الدم مرسومة في كل مكان ومعلقة على فروع الأشجار. استهدفت الشرطة عيون المتظاهرين وفقد العشرات منهم بصرهم، بالإضافة إلى ثلاثين من القتلى. حطم المحتجون كل إشارات المرور بطول البلاد وعرضها، مجموعات من العاطلين تقف على التقاطعات تنظم المرور بإشارات بالأيدي مقابل القليل من العملات المعدنية يتسولونها من قادة السيارات. واجهات المحلات مغطاة بألواح فولاذية لتفادي التخريب مرة أخرى، وكل سيارات الشرطة التي صادفتها، جسدها المعدني محطم ونوافذها مشوهة ببقع من الطلاء الملون، أما رجال الشرطة أنفسهم فلا ينقلون سوى جماعات.

اندلعت التظاهرات الطلابية قبلها بشهور، اعتراضاً على رفع تعرفة المترو، وتطورت سريعاً إلى أكبر موجة من الاحتجاجات تشهدها البلاد في تاريخها، فنزول الجيش وفرض حالة الطوارئ. فتشيلي المختبر الأول لتطبيق النيوليبرالية، بقوة الانقلاب العسكري، وبدعم الولايات المتحدة، تمتعت باقتصاد في غاية الازدهار منذ الثمانينات، وعانت بالقدر نفسه من فوارق فادحة في توزيع الثروة والدخول. ولم يغير رحيل بينوشيه والتحول إلى الديموقراطية، شيئاً في البنية الاقتصادية للبلاد. الدور المحدود للدولة كما اشترط "صبيان شيكاغو" (اقتصاديون تشيليون درسوا في جامعة شيكاغو أو تأثروا بفلسفتها النيوكلاسيكية) كان يعني خدمات عامة محدودة، وتعليم جامعي بكلفة عالية، والحد الأدنى من الإعانات والمساعدات الحكومية، تأمين صحي خاص، ونظام معاش تقاعدي خاص أيضاً لا يغطي سوى نسبة محدودة من السكان. كان نجاح التجربة التشيلية، يعني تعميمها على العالم بتحالف بين رونالد ريغان ومارغريت ثاتشر.

سيمكنني أن أرى الجانب الآخر من المدينة في اليوم الأول نفسه، بعدها بساعات، وبحثاً عن مكان لتناول عشاء مبكر، سأجد نفسي داخل مربع من المطاعم باهظة الثمن، جزيرة تجارية منفصلة عن كل ما حولها، كل شيء يبدو براقاً ومعتنىً به، ويحيطه صف من المصفحات الأمنية، ومن بعيد يمكن رؤية سلال التلال المطلة على المدينة. جلست وطلبت شيئاً خفيفاً، الطبق الأرخص في لائحة الطعام، لكن النادل نصحني بالمغادرة. ولم أفهم السبب، كانت ليلة الجمعة، وشممت رائحة قنابل الغاز التي انتشرت فجأة، وبدأت في السعال، كانت الاشتباكات المسائية لنهاية الأسبوع قد بدأت.

أذكر تلك الليلة جيداً، في ساحة إيطاليا. اجتمعت بضعة ألوف من المتظاهرين، الطرق مقطوعة بالإطارات المشتعلة، ومن بعيد نرى قنابل الغاز تطير في الاتجاهين على الخطوط الأولى للاشتباكات. التمثال الذي يتوسط الميدان مطلياً بألوان راية المابوتشي (السكان الأصليين لوسط تشيلي)، ومرفوع عليه علَمين، العلم التشيلي وعلم فلسطين. البنايات المحيطة ترفع رايات كبيرة بشعارات من أغنية "الحق في العيش في سلام". ومجسم ضخم بارتفاع ثلاثة أمتار للكلب "نيغرو ماتباكوس"، قديس المتظاهرين وكلاب الشوارع، يتقدم في موكب صغير، يحيطه الأطفال الراغبين في التقاط الصور. جاءت الأسر مع أطفالها، ولبس الجميع كمامات وأقنعة للحماية، وبعضهم ابتكر حلولاً رخيصة، بأقنعة للغطس ونظارات السباحة، وأوعية طبخ معدنية كأغطية للرأس.

وقفت إلى جانب عائلة فلسطينية تشيلية، عرفت أفرادها من الكوفيات التي ربطوها حول أعناقهم، وحين اقتربت سمعت حديثهم مع الأطفال بعربية مطعمة بقليل من الإسبانية. واشتريت كعكة من أحد الباعة الجائلين، وسيجارتين فرط، ومشروباً ساخناً وكيساً من الفول السوداني. ذكرني الجو المحيط بالقاهرة تماماً، بقاهرة العام الأول بعد الثورة، بتفاصيل مشابهة. الصبية الغاضبون القادمون من الأحياء الفقيرة بعيون محمرّة بتأثير المخدرات والغاز، يركضون إلى الصفوف الأولى وسريعاً ما يعودون محمولين والدم ينزف من وجوههم، أما جماعات الشباب المنتمين للبرجوازية ففي قلب الميدان، يغنون ويرقصون وكأنهم في مهرجان موسيقي. وأشعرني ذلك ببعض من الحزن أو الحنين. في نهاية الأسبوع الذي قضيته في سانتياغو، استجابت الحكومة التشيلية لضغوط الاحتجاجات أخيراً، ووعدت بطرح الدستور الموروث من حقبة الديكتاتورية العسكرية للاستفتاء.

مرّ عام تقريباً منذ تلك الليلة، حتى كدت أنساها. لكن يوم الإثنين الماضي، وعلى شاشة التلفزيون، شاهدت الآلاف في الميدان نفسه، ساحة إيطاليا، يحتفلون هذه المرة، بلا قنابل ولا إطارات مشتعلة.. صوّتت تشيلي بغالبية ساحقة، تتجاوز الثلثين، لصالح تعديل الدستور، وانتخاب مجلس تأسيسي لوضع دستور جديد خلال عامين. استطلاعات الرأي تشير أيضاً إلى أن التشيليين راغبون في دستور جديد، يضمن اشتراكية الدولة، ليضعوا نهاية لأسطورة مدرسة شيكاغو الكاذبة، وتسجيل هزيمة ذات دلالة تاريخية لتجربة النيوليبرالية، في مختبرها الأول.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024