محسن إبراهيم... مشروع معارضة ديمقراطية لم يكتمل

حسن الحاف

الجمعة 2020/06/26

إهداء: 

        إلى كل المناضلين في سبيل لبنان ديمقراطي وعلماني وأكثر عدالة، وإلى ذكرى كل الذين غادرونا، وهم كثر، مناضلين على الطريق الشاق نفسه.  

        وأخيراً، إلى كل الذين يرفضون الحرب الأهلية ممراً للتغيير. 

 

 

 الذين يتذكرون محسن إبراهيم اليوم يتذكرونه بوصفه أحد ألمع السياسيين اللبنانيين. يتذكرونه، وقد رحل، بوصفه أحد القلائل المتحدرين من زمن مفارق، كانت السياسة فيه التزاماً أخلاقياً وانسانياً، تتداخل فيها القيم والأفكار والمعاني والأحلام وتتصارع، من دون أن يعني ذلك أنها محكومة حتماً بالصواب أو بالنجاح.

فالأمين العام لمنظمة العمل الشيوعي لعب أدواراً كبرى في لبنان والمنطقة خلال المرحلة التي اصطلح على تسميتها مرحلة الاستقلالات الوطنية. هذه الأدوار، وما أحاط انكفاؤه عن الظهور العلني منذ التسعينيات، جعلته عرضة لتكهنات وتحليلات عدة. 

تارة اتهم من الذين غادروا التنظيم على خلاف معه بأنه عمل على دفع المنظمة نحو الانهيار بعدما أيقن فشل رهاناته التاريخية، طامحاً إلى التحول لـ"شخصية وطنية". وتارة أخرى اتهم بأنه فرط بدماء شهداء المنظمة الذين قضوا دفاعاً عن خطها السياسي لا عن أهداف هذا الخط والمصالح التي يمثّلها، كما كان يدافع ويقول. وطوراً اتهم من خصومه اليساريين، الملحقين بالقوى الطائفية التي سادت بعد الحرب، بأن نقده لانخراط اليسار في الحرب الأهلية لا يعدو كونه نقلاً للبندقية، فضلاً عن كونه استسلاماً وتقديماً لأوراق الاعتماد لـ"أعداء" الأمس في "المعسكر الانعزالي والامبريالي". همُّ هؤلاء كان من يحمل البندقية، لا المشروع الوطني الكائن خلفها ومدى صلته بمستقبل البلد الديمقراطي ولا المصالح التي يمثّلها.      

صورة شائعة واتهامات متداولة لا تنتهي، إذن. 

كلّها بدت أقرب إلى منطق فك الطلاسم منها إلى منطق مقاربة شخصية تاريخية لعبت أدواراً كبرى في واحدة من أكثر مراحل تاريخ لبنان صراعاً على هويته وموقعه الاقليمي. انكفاؤه، إذن، هو سبب هذه الصورة الضبابية والملغزة المتداولة عنه. وهو انكفاء لم يتردّد في شرح أسبابه وظروفه في النتاج الحزبي الغزير الذي خلفه وراءه، بدءاً من نص "في الاشتراكية" (1993) الذي وزع كاملاً أخيراً، مروراً بموضوعات "الوثيقة الفكرية البرنامجية" التي وزع ملخصها أيضاً، وصولاً إلى كل المداخلات الحزبية، التي لم تنقطع أسبوعياً إلا في ما ندر، خلال ما يسمى فترة انكفائه. وهي كلّها نصوص غنية ومكثفة لا تترك تفصيلاً في التجربة يستحق التناول إلا وتتناوله، على الرغم من أن توزيع بعضها ملخّصاً أفقدها الكثير من قيمتها التاريخية. وهو أمر ينبغي تصحيحه، حرصاً على الحقيقة والتاريخ، وإن يكن لا يبرّر للقائلين بنظرية الصمت الاستمرار في تردادها.

فلئن غاب محسن إبراهيم عن "الصورة"، لكنه كان في ما ورائها يمارس السياسة اليومية بنشاطه المعتاد إنّما من موقع التأسيس بعدما غادر موقع قيادة، انهارت أعمدتها الايديولوجية والاجتماعية على السواء. والفرق بين الاثنين شاسع. فهو كان يقول لبقايا المنظمة من جهة ولعارفيه من جهة ثانية إن غيابه سببه محاولة تأسيس مشروع حزبي جديد، بعدما أطاحت مراجعته النقدية تقريباً بكل المشروع الحزبي السابق. كان مهجوساً، إذن، بتأسيس حزب معارض، يساري وديمقراطي وعلماني، ذي خط سياسي مستقل، قادر على لعب دور مفصلي في النضال من أجل لبنان أكثر عدالة وأكثر حرية. حزب يسهم من موقعه في إعادة استنهاض حركة ديمقراطية لبنانية معارضة، لا تعيد إنتاج تجربة الحركة الوطنية اللبنانية بقدر ما تستفيد من دروسها والخلاصات الأساسية التي حكمت نشوءها وتلاشيها.  

وإذا كان لم ينجح في ذلك فلأن الحزب الديمقراطي، أو بالأحرى الحياة الديمقراطية لا يمكن أن تنهض بقرار أو بمرسوم فوقي، كما كان يردّد. ولأن العملية الاجتماعية التاريخية الضرورية لإحداث نهضة وطنية وديمقراطية لا يمكن أن تنطلق في ظل تحكم قوى الحرب الأهلية ورعاتها الخارجيين حصراً بمقاليد الدولة والمجتمع اللبنانيين. ذاك أن الحاجة بعد الحرب بدت ماسة لإعادة بناء قوى التغيير الاجتماعية، ولكن لا توجد وصفات وقوالب جاهزة لذلك.       

 

وهنا لا مبالغة في القول إن محسن إبراهيم يختزل في تجربته المفردة تجارب تاريخية عدة. تجارب أثرت في أجيال من المثقفين والمناضلين على امتداد ستة عقود، من أوائل الخمسينيات حتى أواخر الثمانينات، في مواقع القيادة التنظيمية الوطنية والعربية، ومن مطلع التسعينيات حتى رحيله في موقع محاولة التجديد الفكري -السياسي ضمن اليسار اللبناني. ويمكن تقسيمها إلى ست محطات رئيسية كالآتي: 





- الدور القيادي التقدمي الذي لعبه في حركة القوميين العرب، ومساهمته، عبر الفرع اللبناني للحركة، بعد هزيمة العام 1967 في الانعطاف بالحركة يساراً، ومن ثم في حلّها وإنهاء دورها بعد خروج "الفصائل الماركسية -اللينينية منها". وقد تولد من هذا الخروج منظمة الاشتراكيين اللبنانيين والجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين.  



- المساهمة في تأسيس منظمة العمل الشيوعي في لبنان، إثر اندماج منظمة الاشتراكيين اللبنانيين مع "لبنان الاشتراكي". (اللقاء بين التنظيمين حصل بفضل الهم العربي المشترك والتقارب في التحليل الطبقي للوضع اللبناني، والاتفاق في النظرة الى الحزب الشيوعي اللبناني "الإصلاحي والتحريفي"، المتحالف مع أحد أجنحة التحالف الحاكم أو "البورجوازية الوطنية". هذا إلى جانب نقد نظرية تراكم الإصلاحات أو الطريق البرلماني إلى الاشتراكية). 



- المساهمة في تأسيس الحركة الوطنية اللبنانية ووضع برنامجها المرحلي للإصلاح الديمقراطي للنظام السياسي في لبنان. 





- لعب الدور الأبرز فكرياً وسياسياً في التمهيد ولاحقاً انخراط كل تشكيلات الحركة الوطنية في الحرب الأهلية، تحت عنوان اختصار الطريق الى التغيير.  





- تأسيس جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي مع الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني جورج حاوي إلى جانب حزب العمل الاشتراكي العربي.  





- وأخيراً، المراجعة الفكرية التي طاولت الخط الفكري والسياسي للمنظمة، والتي أدّت إلى انهيار إطارها التنظيمي، ومحاولته الطموحة، التي لم يكتب لها النجاح طوال ثلاثة عقود، لإعادة تأسيس مشروع حزبي جديد، ديمقراطي ذي أفق اشتراكي، على تضاد تام فكرياً وسياسياً مع أي منطق على صلة بالحرب الماضية. 





                       الهزيمة مقدّمة للمراجعة.. والنقد شرط التجدّد

 

من الصعب جداً اختصار المسار الفكري والسياسي المديد لمحسن إبراهيم. فالرجل ظلّ ماكينة عمل ونشاط يومية لأكثر من 6 عقود. لكن هزيمتين، أو ثلاث بالأحرى، ربما يكون لها الأثر الأكبر على مساره وتشكّله الفكري وخياراته السياسية الاستراتيجية، الوطنية والعربية.

الهزيمة الأولى هي هزيمة حزيران 1967، أمّا الثانية والثالثة فهما هزيمة الحركة الوطنية في العام 1977 بعد الدخول السوري الى لبنان، والذي استكملته الهزيمة الثالثة التي أعقبت الاجتياح الإسرائيلي في حزيران العام 1982 وتداعياتها الكبرى، لاسيما خروج قوّات المقاومة الفلسطينية من بيروت.

لعلّه لم يكن ليفصل بين أثر هاتين الهزيمتين الأخيرتين المدمّر على المشروع الوطني اللبناني.   

فمن كتاب "لماذا منظمة الاشتراكيين اللبنانيين؟ حركة القوميين العرب من الفاشية الى الناصرية"، يشعر القارئ بمدى شجاعة من ينتقد أكثر من خمسة عشر عاماً من تاريخه بهذه اللغة الحاسمة غير المترددة. وهو كتاب يضج بهزيمة الـ67، ورؤية محسن إبراهيم ورفاقه الخاصة لكيفية تصفية آثار عدوانها.   

فإذا كانت مقدمات التحول النوعي الذي كان محسن إبراهيم يدفع باتجاهه في الحركة قد طبعت أغلب عقد الستينيات من القرن الماضي، إلا أن التحول لحظة إعلانه كان مدوياً.

فقد خاض "الجناح التقدمي" في الحركة بقيادة محسن إبراهيم ومحمد كشلي ونايف حواتمة معركة "طحن عظم" أيديولوجية وتنظيمية ضد "الجناح اليميني الفاشي". جناحٌ كان بقيادة جورج حبش ووديع حداد وهاني الهندي! 

انتهى الصراع لاحقاً بخروج ما صار يصطلح على تسميتها بالفصائل الماركسية اللينينية في الحركة من الإطار التنظيمي، وقام هو ومحمد كشلي وآخرون بتأسيس منظمة الاشتراكيين اللبنانيين.

ولنعرف حجم الانقلاب الفكري والسياسي الحاصل يجب أن نتذكر أن برنامج الحركة كان يقوم على "الإنكار المطلق لموضوع الصراع الطبقي (...)"، و"سياسة مناهضة للاستعمار مفرغة من أي مضمون وطني طبقي تقدمي (...)"، وعلى أن "الصراع مع إسرائيل ليس صراعاً مع الحركة الصهيونية بل هو حرب فناء أو بقاء مع كل اليهود في كل أنحاء العالم"، وعلى "نظرة رومنطيقية للوحدة العربية، ترى فيها مفتاحاً لكل المعضلات"، وأخيراً على أن الشيوعية "هي أحد الأخطار الرئيسية على النضال القومي".  

 

هكذا، إذن، انتقل الفريق الذي مثله محسن إبراهيم من ضفة فكرية وسياسية وتنظيمية إلى الضفة النقيض عابراً على جسر صلب من النقد معبّداً بنظرة أيديولوجية وسياسية جديدة. نقدٌ يجعل الانتقال مبرّراً اخلاقياً ومبدئياً، خصوصاً بعدما تكون الممارسة ونتائجها، معطوفة على التجربة والمعارف الجديدة، قد كشفت العيوب البنيوية في الانتماء السابق.

لا يقيّم الانتقال هنا على قاعدة الصح والخطأ، وإنما على قاعدة تداعيات كل خيار على مصير المجموعة البشرية التي ينتمي إليها المثقف المناضل. من هنا، راح إبراهيم في تجربة حركة القوميين العرب للآخر، فتشبّع بها تماماً وتشبعت منه كلياً. وقد كانت مساهمته في تأسيس الجناح اليساري فيها أولى محاولاته اللا واعية لإطالة عمر تجربته ضمنها.

غير أن هزيمة العام 1967 سرعان ما أطاحت بـ"التسوية المؤقتة" التي عقدها الطرفان.

فكاتب "كلا لم يخطئ عبد الناصر، ولم يهزم العرب" عاد ورأى في الهزيمة هزيمةً للناصرية. هزيمة لما مثلته من قيادة "البورجوازية الصغيرة العسكرية والبيروقراطية" لحركة التحرر الوطني العربية، داعياً إلى قيادة الطبقة العاملة لها، وعاملاً بكل ما يملك في سبيل وضع دعوته الجديدة موضوع التطبيق. قراءة طبقوية أيضاً نالت نصيبها من النقد منتصف التسعينات. 

بعدها بدأت تجربته في قيادة منظمة العمل الشيوعي في لبنان التي توّجها العام 1975، بتوليه مهام الأمين العام التنفيذي للمجلس السياسي المركزي للحركة الوطنية اللبنانية. غداة استشهاد كمال جنبلاط في آذار العام 1977 صار إبراهيم الرقم واحد في قيادة الحركة.    

وقد طرحت الحركة في 18-8-1975 برنامجاً إصلاحياً، لم يخطئ من اعتبره، الارقى والأكثر تقدمية في تاريخ لبنان الحديث. فقد دعا البرنامج إلى إصلاحات عدة أبرزها:

 

 

 

1-إلغاء الطائفية السياسية في مجال التمثيل الشعبي وفي الإدارة والقضاء والجيش كمرحلة أولى نحو الوصول إلى علمنة كاملة للنظام السياسي. 

2-إصلاح ديمقراطي للتمثيل الشعبي من خلال اعتماد قانون جديد للانتخاب يقوم على إلغاء الطائفية السياسية وجعل لبنان دائرة وطنية واحدة والأخذ بنظام التمثيل النسبي، وخفض سن الاقتراع إلى ثمانية عشر عاماً (...).   

3-إصلاح السلطات العامة وتحقيق التوازن بينها، عبر إجراء إصلاحات على الصعد التشريعية والتنفيذية والقضائية. 

4-إصلاح الإدارة، وعلى رأسها إناطة تعيين جميع موظفي الإدارات والمؤسسات العامة بمجلس الخدمة المدنية، باستثناء المديرين العامين وأمناء سر الدولة والسفراء وقادة وضباط وأفراد القوات المسلحة (...). 

5-إعادة تنظيم الجيش.

6-تعزيز الحقوق والحريات الديمقراطية والعامة.

7-الدعوة لانتخاب جمعية تأسيسية على أساس لا طائفي لتقود حواراً وطنياً واسعاً بشأن الإصلاح المقترح ولتضع التشريعات الدستورية والنظامية اللازمة موضع التنفيذ. 

 

كان البرنامج المرحلي أول برنامج تقدمي جدي تطرحه قوى اجتماعية متزايدة الوزن والتأثير في الحياة الوطنية اللبنانية. غير أن ما جرى بعدها أن الانخراط المتمادي في الحرب الأهلية معطوفاً على التدخّل العسكري السوري، المدعوم عربياً وأميركياً، قد أطاح بالبرنامج، واضعاً اللبنات الاولى للإطاحة بالقوى الاجتماعية المتنامية الحاملة له. لاحقاً، صارت الدعوة إلى إلغاء الطائفية السياسية، بمعزل عن القوى الاجتماعية الرافعة لها، دعوة مبطّنة الى تحكيم الطائفة الأكبر عدداً بمقاليد السلطة والمجتمع اللبنانيين.   

استمرت الحرب وتصاعدت، وتقلبت اتجاهات البندقية السورية، بما يتيح لها تحقيق مشروع هيمنتها الشاملة على الحياة السياسية اللبنانية. وهو الأمر الذي ساجل فيه إبراهيم تحت عنوان "الخطة السورية في الحرب الأهلية"، معتبراً أن قراءة اليسار اللبناني لأطماع النظام السوري في لبنان كانت قاصرة عن الإحاطة بأهدافها الهيمنية الاصلية. 

 

توالت الأعوام وتتالت الإخفاقات. سُحِبَ برنامج الإصلاح الديمقراطي من التداول الوطني، بعد إحكام القبضة السورية على الوضع اللبناني. صار الحديث عن العلمنة أيضاً لزوم ما لا يلزم. وكان سبق ذلك إقرار الوثيقة الدستورية التي استمد اتفاق الطائف لاحقاً معظم بنوده منها.

والوثيقة لم تطمح لأكثر من زيادة وزن "الإسلام السياسي" في الحكم، من دون المساس ببنية النظام الطائفي. كل أمل بنظام ديمقراطي عصري قد تبدّد. صار الأمل يقتصر على إطالة أمد السلم بين جولة حرب وأخرى.

وفي ظل "الطوفان الطائفي" الكبير الذي فاقمه التلاعب السوري بالوضع اللبناني، ومحاولاته المتنامية للإمساك بالورقة الفلسطينية جاء الاجتياح الإسرائيلي.

وإذا كان الصمود البطولي لـ83 يوماً قد فاجاً الجميع، فإن خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان قد أطلق عداً عكسياً متسارعاً لأفول دور اليسار اللبناني بقواه كافة في المعادلة الوطنية. هنا بدأت كتابات محسن إبراهيم وحتى العام 1985 تتلمس آثار هزيمة الـ1982 في امتداد هزيمة الـ1977.

التقط الرجل خطورة اللحظة، مدركاً أن اليسار دخل مساراً انحدارياً لا قاع له. وراح يدافع عن وجهة نظر تقول إن اشتقاق الحلّ العملي للظرف الجديد الزاحف على البلد بعد الاجتياح الإسرائيلي غير ممكن بلا تطوير على مستوى أدوات فهم الواقع القديمة. وهو الأمر الذي سيجد خلاصاته الأكثر نضجاً وجذرية في مراجعة التسعينات الشاملة.

فدعا الشيوعيين اللبنانيين، في كتابه "قضايا نظرية وسياسية" (1984)، إلى أن يكونوا "أصلب الاطراف فكراً في الحوار الصراعي مع الحلول الطوائفية" وإلى "استكمال وعيهم للمسألة الطائفية اللبنانية" بعد تاريخ طويل من تجاهل المسألة والانصراف عنها.

وإذ انتقد "مفكرينا الماركسيين" الذين "لم يطرحوا على أنفسهم وعلينا موضوع تعريف الطائفية بصفته همّاً نظرياً حقيقياً وموضوعاً تاريخياً فعلياً إلا بعد سنوات من انفجار الحرب الأهلية الاخيرة"، أشار إلى "ضخامة مسؤوليتنا عن تجذر الطائفية كما قدمت نفسها في الظواهر وفي الوعي العفوي الشائع والمشاع". 

بعدها انتقل لتطوير نظرته للتجزئة الاستعمارية، معيداً الاعتبار الى المستوى الداخلي في الأزمة. فلاحظ أن "الاستعمار لن يجزئ إذن، أمة عربية موحدة مثلما أنه لم يثبت حين جزّأ في جميع الأحوال أقطاراً عربية سبق لها أن تجانست قديماً ضمن كيانات حديثة.

إن فعل التجزئة الاستعماري المعاصر وقع في الشطر الأكبر من المنطقة العربية على تجزئة استعمارية عربية فعلية قديمة وقائمة. ولم يكن عليه في هذا المجال سوى جلاء عناصر التجزئة الجاهزة وإعادة تركيبها ثم تفصيلها مجدداً في كيانات تغلب الوظيفة الاقتصادية الأصلية على بعضها، وتغلب الوظيفة السياسية المكملة على بعضها الآخر، وتغلب الوظيفة الاستراتيجية الجزئية أو العامة على بعضها الآخر، لتندرج جميعاً في المدار الموحد للسيطرة الاستعمارية المتعددة الأوجه على المنطقة العربية".

يتّفق إبراهيم هنا مع المفكر اليساري السوري ياسين الحافظ على اعتبار التخلف ليس مجرّد نتيجة طبيعية للسيطرة الاستعمارية، وإنما هو نتيجة عناصر التجزئة والتخلف في بنى المجتمع العربي أيضاً. تجرّأ أيضاً، وهو الوحدوي العربي، على طرح المسألة الكيانية اللبنانية في وجه دعاية النظام السوري آنذاك، معتبراً أن "الانعزالية والكيانية والطائفية والتسلط الفئوي والأقلوية ليست كلها آثاماً لبنانية خاصة، إنها إثم عربي عام ولا يكاد ينجو من أقساط هذا الإثم بلد عربي". 

كتب كل ذلك فضلاً عن نصوص تتناول "العملية التاريخية اللبنانية" و"خصائص الاقتصاد اللبناني"، فيما كان مقاتلو جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية يطاردون قوات الاحتلال الإسرائيلي في كل بقعة من بقاع وجودهم على الأرض اللبنانية. 

 

 

                            الحركة الوطنية والتغيير بالحرب 




قدّم إبراهيم قراءة نقدية شديدة الواقعية لتجربة الحركة الوطنية. إذ وصفها بأنها "جسم سياسي ديمقراطي يغالب الالتباسات الطائفية ويشكل طور انتقال ربما نحو استواء جسم سياسي بتمثيل عابر للطوائف، ما فوق الطوائف، معاكس لمنطق الانقسامات الطائفية، وليس حركة صافية العلمانية تشكل رداً على كل الالتباسات الطائفية (تشرين الاول، 1994).

وأضاف "هذا المشروع للجسم السياسي الجديد الذي كان يغالب حتى يستوي جسماً سياسياً خارج الطوائف والطوائفيات وضد الطائفية ومستقل عنها ومتمرد عليها ومستقوي بكل العوامل عندما نزل في رهان بأنه يخوض الحرب ليقلبها على رؤوس أصحابها كانت نتيجة الحرب، ليس في ضوء من انكسر ومن انتصر، بل في ضوء ما فرضته الحرب من تغيرات بنيوية في ضفتي الصراع (...)".

وخلص إلى أن هزيمة الحركة تحققت عام 1977 لا بعد الاجتياح الإسرائيلي. إذ "بدأت الحركة الوطنية تخسر الحرب قبل أن تضع الحرب أوزارها لأن الحرب انزلقت سريعاً الى حرب إسلامية مسيحية (عندما نكون في اجتماع ونسأل كيف نرد على تل الزعتر يطلع اقتراح باجتياح دير القمر، هذا يظهر أين أصبح الموضوع)". 

 

وقد استكمل نقده لأخطاء الحركة الوطنية في ذكرى أربعين الشهيد جورج حاوي (7 آب 2005)، عندما سجّل خطأين "كان ضررهما عظيماً على الحركة الوطنية اللبنانية وعلى البلد في آن:

 

الخطأ الأول: إننا في معرض دعم نضال الشعب الفلسطيني ذهبنا بعيداً في تحميل لبنان من الأعباء المسلحة للقضية الفلسطينية فوق ما يحتمل، طاقة وعدالة وانصافاً. 

 

الخطأ الثاني: إننا استسهلنا ركوب سفينة الحرب الأهلية تحت وهم اختصار الطريق الى التغيير الديمقراطي. فكان ما كان - تحت وطأة هذين الخطأين - من تداعيات سلبية خطيرة طاولت بنية البلد ووجهت ضربة كبرى الى الحركة الوطنية وفي القلب منها يسارها الذي كان واعداً في يوم من الايام". 

 

ولم يكن هذا النقد بلا تاريخ حتى في عز الحرب الأهلية وبدء انسحاب المنظمة منها. ففي كتاب "الحرب وتجربة الحركة الوطنية اللبنانية" (1983) ردّ على سؤال لمحاوره فواز طرابلسي مؤكداً أنه "جرى تحميل لبنان أعباء تفوق طاقته (...) لأن انتقال الثقل الأساسي للمقاومة الفلسطينية الى لبنان كان ينطوي بالفعل على مفارقة كبيرة بين الحجم الهائل لهذا الثقل وبين قدرة لبنان وطناً وتركيباً وحياة سياسية على التحمل". 

 على أن إبراهيم كان لا يزال في تلك المرحلة مشدوداً إلى قراءة تحمّل الطبقة المسيطرة "المسؤولية التاريخية عما تحمّله لبنان من أعباء مضاعفة وما تكبده من خسائر فادحة"، مشيراً إلى أن "تشبثها المستحيل بالانعزال السياسي اللبناني المطلق عن المنطقة العربية هروباً من المشاركة في تحمل أي قسط من أعباء الصراع العربي الصهيوني، أدى بالنتيجة الى الانكشاف السياسي اللبناني المطلق أمام العوامل والتأثيرات والصراعات الوافدة من المنطقة العربية، فكان أن تحمّل لبنان وحده لفترة طويلة الشطر الأكبر من أعباء الصراع العربي الصهيوني". 

 

طبعا، وكما صار معلوماً في ضوء ما سبق، طور إبراهيم نظرته النقدية لتوزيع المسؤوليات عن الحرب. فلم يتراجع عن نظرته لمسؤولية الطبقة المسيطرة آنذاك، لكنه أضاف إليها قراءته النقدية لمسؤولية قوى اليسار.

 

هكذا، إذن، لم يتراجع يوماً عن دعوته لدعم نضال الفلسطينيين في سبيل إقامة دولتهم المستقلة. وظل يرى خطورة المشروع الصهيوني لا على فلسطين وحسب، وإنما أيضاً على جوارها العربي بأكمله. وقد دأب على تأكيد الخاصيتين الأصليتين لإسرائيل: "خاصية الغصب الاستيطاني المتوسع في إسرائيل والمرشح لأن تتجدد موجات أطماعه نحو الخارج. والخاصية الثانية إنشاء دولة يراد لها أن تمارس علاقة سيطرة على المنطقة بمعنى الإقامة عند نقطة التقاطع بين مختلف الروافد والعوامل والعناصر المقرر تضافرها للنهوض العربي وتعطيلها". 

 

 

          أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات: شجاعة المراجعة الشاملة  


لم تكن المراجعة النقدية التي أجراها إبراهيم استجابة لمزاج حزبي عام داخل المنظمة، أو استجابة لتيار صاعد على مستوى بيئات اليسار العربي. كانت المراجعة خياراً فردياً، لم ترَ في الانهيار الذي ضرب المعسكر الاشتراكي نهاية الثمانينات مجرد انتكاسة لتجربة من تجارب الشيوعية، وإنما نظرت إليها بما هي دليل على أعطاب بنيوية في النموذج النظري المرشِد انعكس خللاً في دوائر التطبيق. وفي ضوء هذه النظرة فتح باب النقد على مصراعيه، مشرّعاً الباب أمام مشروع فكري وسياسي هو الأكبر بعد الحرب والأكثر طموحاً، وإن لم تتردد أصداؤه كثيراً خارج جدران المنظمة، لأسباب أكثر من أن تحصى.    

وقد طاولت مراجعته أزمات الاشتراكية المتحققة تحت راية الماركسية فضلاً عن أزمة الرأسمالية والخط السياسي الذي حكم نظرة المنظمة إلى الوضع العربي والعالمي واللبناني.

 كان يقول في مداخلاته إن الجديد لا يولد تلقائياً من نقد القديم، لكن نقد القديم شرط ضروري لولادة الجديد. وفي كل ذلك الجديد الذي كان يبحث عنه بدأب كان واضحاً في القول أيضاً إن: "عدم الالتزام الكلي والشامل بالماركسية لا يعني التنكر لها أو إسقاطها من حساب العدة الفكرية، التي تبقى لازمة لكي نتقدم على طريق استكشاف معالم اشتراكيتنا المتجددة، وأنه بهذا المعنى إذا لم نكن أمام التزام كلي وشامل بالماركسية فنحن أمام استفادة ضرورية ويجب أن تتجدد للماركسية". وأكد أنه "عندما نفك هذا الارتباط بين الاهتمام بالماركسية وبين التزامها التزاماً كلياً وشاملاً فسنكون أمام حقل معرفي واسع وضخم". فالماركسية، وفق تعبيره، "اهتمت بدراسة ظواهر الإنتاج في المجتمع، فيما الفكر الاقتصادي السابق عليها واللاحق لها في الإنتاج نفسه عني بدراسة ظواهر السوق". وإذ يروح يستعرض المفاهيم الماركسية التي لا تزال صالحة لتحليل أزمة الرأسمالية في العقد الأخير من القرن العشرين، يشير الى ضرورة النظر إلى الرأسمالية نظرة غير اقتصادوية، فـ"الرأسمالية ليست نظاماً اقتصادياً وحسب، بل ان الرأسمالية هي نمط إنتاج ونظام اقتصادي ومحيط اجتماعي سياسي ثقافي أيضاً". 

 

على مستوى تجديد قراءته الفكرية للرأسمالية، قدم نقداً للقراءة الماركسية "التبسيطية والاقتصادوية والميكانيكية" لها، داعياً الى إعادة النظر بالمعادلة الماركسية التي ترى تطوراً دائماً في قوى الإنتاج في مقابل ثبات العلاقات الاجتماعية. إذ "ليس صحيحاً أننا ما زلنا أمام علاقات اجتماعية تتأبد على الدوام فيما نصيب قوى الإنتاج من التطور وحده هو المقرر. وليس صحيحاً ايضاً أن الصعيد الاقتصادي هو الصعيد المقرر وبقية الأصعدة لا تعدو كونها انعكاساً له. فلكل صعيد من أصعدة المجتمع وجوده القائم في ذاته وأهميته".

وخلص إلى أنه "على صعيد المراكز الرأسمالية المتقدمة بدأت تنتصب حدود معينة لملكية رأس المال لعناصر الإنتاج على نحو مختلف عمّا كان الأمر عليه مع نشأة الرأسمالية، مفهوم الملكية تغير، مقدار السيطرة تغيّر، إذ ما هي الملكية؟ الملكية ليست ملكية حقوقية، انما هي حجم سيطرة. هل ما زالت الملكية سيطرة مطلقة؟ ام اصبحت الملكية سيطرة محدودة؟". وعاد أخيراً لنفي أهمية المقولة الماركسية التي تتحدث عن الملكية العامة لوسائل الإنتاج، داعياً إلى النضال من أجل توفير شروط السيطرة الاجتماعية على الحياة الاقتصادية. 



نقد الخط السياسي في امتداد نقد الحرب



والحال أن الزلزال الفكري الذي مثلته المراجعة النقدية للخيار الشيوعي، تولّد منه زلزال تنظيمي أكبر عند الانتقال إلى مراجعة "الخط السياسي" للمنظمة. إذ ووجه إبراهيم بانتقادات من عدد كبير من رفاقه كلّها تندرج تحت عنوان: وهل استشهد رفاقنا وقاتلوا من أجل خط سياسي خاطئ؟ وما الذي يمنع أن تكون هذه المراجعة للخط خاطئة بدورها؟ 

بطبيعة الحال، غادر عدد كبير منهم صفوف المنظمة منتصف التسعينات.  

بيد أنه هنا أيضاً لم تنقصه الجرأة. فهو ابتدع تمييزاً بين خط المنظمة وبين مسلكها السياسي.

فالخط السياسي المنقود هو التطبيق السياسي للخيار الفكري، وبالتالي من الطبيعي نقده بعد نقد الأول وإعادة النظر به. أما المسلك السياسي فـ"كان يحكمه هاجس أساسي هو التفتيش الدائم أين انتقلت نقطة الثقل في المعارضة الديمقراطية الشعبية محلياً وعربياً وعالمياً كي ننتقل إليها ونعقد مع المصالح الأكثر تقدماً التي تمثّلها، ولسنا تنظيماً يتقن البحث عن أين انتقلت نقطة الثقل في إمكان تسلق السلطة كي ننتقل إليها ونثمّر نضالاتنا في مقعد نيابي أو مقعد وزاري يشترى من مخابرات أو يشترى ببيع الخط السياسي للحزب".

ولعل أبرز سهام نقده للخط السياسي قد أصابت تبريره للحرب الأهلية والانخراط فيها. فالمنظمة نظرت إليها على أنها حرب ذات لحظتين:

"الاولى حرب السنتين 1975 -1976، حيث هي من جانب الطبقة المسيطرة حرب أهلية، فيما هي من جانبنا حرب تغيير وطني ديمقراطي (...).

والثانية حرب أهلية تحولت الى حرب طائفية ومذهبية من كل الضفاف نحن خارجها".

في ضوء ذلك، دعا الى قراءة علمية للتاريخ اللبناني تؤرخ الحرب الأهلية على أنها انفجرت في 23 نيسان 1969 (تظاهرة البربير الشهيرة ضد التضييق على المقاومة الفلسطينية) في امتداد انفجار الحرب العربية -الإسرائيلية في 5 حزيران الـ 1967". كما طرح سؤالاً شكل آنذاك خلاصة نقده لتجربة اليسار في الحرب: وهل كان فكر اليسار فكر حرب أهلية أيضاً؟، معتبراً أن إعفاء فكر اليسار من النقد سيؤدي في ظروف مشابهة لظروف 1969 أو ما قبل 1975 إلى أن يساهم في قيادة البلد مرة أخرى الى مجازفة حرب أهلية. 

ففي رأي إبراهيم "ليس عن طريق الإكثار من شتم الحرب نحمي، وإنما من طريق وعي ما حف بها من مراهنات ومجازفات، سواء تعلق الأمر بوهم الاستعانة بالخارج عنصراً مساعداً على التغيير بالداخل، أو تعلق الأمر بوهم ركوب مركب الحرب الأهلية للوصول الى تغيير ديمقراطي، أو تعلق الأمر بوهم التجذير بالسلاح لإنجازات راكمها البلد فإذا بهذا السلاح يؤدي إلى هدم الانجازات التي كان البلد راكمها".  

 ولم يجانب نقد دور "الأمين العام" في المنظمة، معتبراً أن "الأمين العام حسب تعريف المركزية الديمقراطية يسمى قائد هيئة العمل الجماعي، إذن هو قائد خطأ الهيئة الجماعي".

ورأى أن الأزمة هي "أزمة علاقات تنظيمية وأزمة خيار أخذ به كونياً اسمه المركزية الديمقراطية (...) وهي أزمة جثمت على منظمتنا وكان لها دور في التخبط الداخلي والاختناق الخارجي". على أنه يعود ليستطرد شارحاً أزمة المنظمة بالسياق العالمي الذي كانت جزءاً منه فيقول "هذا ليس حالنا فقط. أزمة المركزية الديمقراطية هي أزمة الحركة الشيوعية في العالم وهي أزمة اليسار الجديد في العالم، لأن اليسار الجديد في العالم باستثناء التيار الفوضوي، اليسار الجديد الماوي والتروتسكي لم يقدم نموذج علاقات غير مركزية ديمقراطية". 

 

 

 

                           أزمة دول الرفاه أو الدولة الكينزية

 

إلى ذلك، أعاد النظر بتحليل الماركسية الطبقوي للدولة بوصفها، حصراً، أداة لغلبة طبقة على طبقة. فـ"الدولة المعاصرة تحت كل الظروف باتت دولة تسوية طبقية مع غلبة في هيمنة طبقية معينة، وبالتالي لا نعود أمام اعتبار التسوية الطبقية بديلاً من الهيمنة الطبقية الغالبة، ولا نعود نفهم الهيمنة الطبقية الغالبة هيمنة صاعدة على نحو مستقيم بعيداً عن توليد التسويات، ومحكومة بتبدلات موازين القوى بين طور واخر".


وإذ رأى أن الردود اليمينية واليسارية على أزمة الرأسمالية في مراكزها المتقدمة تبدو أكثر انشداداً إلى ايديولوجيا وبرامج القرن التاسع عشر"، أشار الى "مدى عجز الرأسمالية عن تجاوز معضلات أزمتها الراهنة (منتصف التسعينات) إلا في اتجاه مزيد من التجاوز لمنطق العلاقات الرأسمالية، فيما لا يبدو لنا اطلاقاً أن أي عودة إلى ليبرالية أصلية صافية يمكن أن يشكل جواباً على التحديات التي تواجهها الرأسمالية".    


الطائف السوري ورفيق الحريري و"الآمال الزائفة"

 

حسم إبراهيم مبكراً موقفه من اتفاق الطائف والهيمنة السورية المترتبة عليه، قائلاً في منتصف التسعينات: "اتفاق الطائف اتفاق إقليمي دولي فرض تعبيراً عن اجتياح الخارج للداخل اللبناني ونتجت عنه وكالة سورية، انتقل من نسخة طائف عربي الى طائف سوري، ودائماً بالرعاية الأميركية".

وأشار إلى أن "النهج المترجم للطائف بما يحدثه من استقطابات تنحو على كل أكاذيب وتلفيقات الخطب السياسية المتبادلة، هذا المنحى أخشى أن لا يقتصر على تنظيم بلد مفكك ومقسم يراوح ما دون الاندماج الاجتماعي، ما دون الوحدة المجتمعية، ما دون الحداثة في الثقافة والسياسة وسائر أوجه الحياة، وما دون إحداث الترابط اللازم بين مختلف أجزاء البنية اللبنانية". 

 

وإذا كان قد حسم مبكراً موقفه من الهيمنة السورية على الوضع اللبناني، التي أتت تستبدل الهيمنة الطائفية الداخلية السابقة، فإنه حسم مبكراً أيضاً موقفه من "الآمال الزائفة" التي حفت بمجيء الراحل رفيق الحريري، من الاقتصادي إلى السياسي، بعد الطائف. وقد تمحورت تلك الرهانات حول أن "هذا الرجل رجل السعودية والأميركان وصاحب رساميل وصاحب اتصالات بالمحافل الاقتصادية الدولية، فلعل مجيئه يشكل العنصر المقابل لهذا الاستفحال السوري في الداخل اللبناني فيوازن الوضع، وبالتالي تأتي حكومة تعوض بعض الخلل (...)". 

على أنه يعود فيخلص إلى أن "نحن الآن مجتمعون وقد مضى عامان على تشكيل الحكومة، أنا أوجز باختصار أن هذه الحكومة الآن هي حكومة سورية، وهذا الرئيس للحكومة، بصرف النظر عن أصوله ومن أوصى به، هذه الحكومة الآن، هي حكومة التوقيع على الإرادة السورية بامتياز. وبالتالي ايضاً في إعادة صياغة الحكم، في امتداد إعادة صياغة المجلس النيابي، نحن أمام حسم أكثر باتباع مركز القرار التنفيذي لما هو خارج البلد". (تشرين الثاني، 1994)

     

مشروع اشتراكي جديد تتويج للديمقراطية والحداثة 

 

 

 

تلازم نقد إبراهيم للاشتراكية الماركسية مع نقد لا يقل وضوحاً للخيارات الاشتراكية التي قدمت نفسها بديلاً منها، كالاشتراكية الديمقراطية الأوروبية التي انتهت، كما رأى، جزءاً من أزمة الرأسمالية العالمية. وقد حدّد في ضوء ذلك الملامح الرئيسة للاشتراكية في خياره الفكري الجديد.  

إذ هي "الاشتراكية التي لا تقدم نفسها على أنها علم الحتمية التاريخية التعاقبية التطورية الاقتصادوية والميكانيكية (..)". هي اشتراكية تكن عداءً شديداً للسيطرة الامبريالية على مقدرات الشعوب، وفي الوقت نفسه ترى عناصر التخلف الداخلي في بنى هذه المجتمعات، ليس وفق نظرة اقتصادوية، إنما وفق نظرة أشمل، عناصر التخلف الداخلي الاقتصادية، الاجتماعية ، السياسية، الثقافية، الايديولوجية، آخذين بالاعتبار أن تطور المجتمعات المسماة متقدمة والذي استغرق قروناً عدة لا يمكن اختزاله وفق ترسيمة اقتصادوية لا نرى منها إلا الانتقال من نمط إنتاج الى نمط إنتاج آخر، بل يجب أن يُرى على أنه مسيرة من التقدم متكاملة الحلقات وأنه في هذه المسيرة من التقدم تضافرت مجموعة كبرى من العوامل الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والايديولوجية والعلمية وهي التي بحصيلتها جعلت هذا التقدم ممكناً وميسوراً (...)". 

 

دعا، إذن، إلى اشتراكية ليست مجرد خيار اقتصادي واقتصادوي، مدافعاً عن نظرة تجعل من "الاشتراكية أعلى درجات الديمقراطية"، وهي "التوجه الذي يدعو الى تتويج الحداثة والديمقراطية والتقدم الاجتماعي بخيار يظلل مصالح اجتماعية أوسع على المصالح الاجتماعية الاضيق والأكثر محدودية".

والحداثة هنا وفق نظرته هي التي تحشد كل شيء "من الانتقال الى العقلانية الى التحرر من السلطة الغيبية الى الصراع مع كل ايديولوجية ميتافيزيقية، الى المعركة لوضع الدين في نصابه، إلى العلمانية، الى التطور الثقافي، الى التطور العلمي، الى التوصل نحو الدولة -الأمة التي هي شكل من أشكال المعاصرة السياسية، كل ذلك مع التطور الاقتصادي، هذه الحداثة لا غنى عنها، والديمقراطية أرقي معالمها (...)". حداثة غايتها نزع السحر عن العالم اللبناني، وإدخاله في العالم المعاصر. 

 

في ضوء ذلك، اعتبر ان تحليل أزمة الرأسمالية في مراكزها المتقدمة "يراد له ان يقرر قصور الخطاب الليبرالي في كل مكان (...)"، مشيراً إلى "ما يجب أن تكون عليه اشتراكيتنا سيستمد من حقلين: من تجديد مناقشة أزمة الرأسمالية حتى نرى هل صحيح ان التاريخ قد حسم لمصلحة الليبرالية أم لا، ثم من مناقشة تجارب الاشتراكية السابقة وواقع الديمقراطية السياسية الراهنة".

وسجل أخيراً في هذا الجزء من البحث (آب 1993) أن النقاش "محكوم بالبرهنة على أنه مع الربع الأخير من القرن العشرين نجد أنفسنا أمام راهنية متجددة لأزمة الرأسمالية تعطي كل المشروعية للبحث في برنامج اجتماعي بديل".

 

وفيما يشير ما تقدم الى طبيعة المشروع الفكري الذي يشق طريقه، فإن المشروع السياسي المترتب على ذلك لا يقل عن تأسيس "منظمة يسارية متجددة طامحة نحو الفصل في اتجاه إعادة بناء حركة ديمقراطية لبنانية، معارضة بالتعريف، لأن النظام الحاكم غير ديمقراطي، نظام طوائفي متخلف مشدود بألف قيد وقيد".

وهي معارضة تدرك جيداً منتصف التسعينات بأن "مركز صياغة السلطة السياسية في البلد بيد النظام السوري وكل ما يجري على المسرح الآن هو خانات من توزيع ادوار  - طبعاً ضمن  الصف السياسي في البلد لأنه ضمن الشعب لا أحد يستطيع توزيع ادوار، الشعب متفرج على هذه المسرحية الملهاة التي تدور - هناك توزيع أدوار ضمن الحكومة وبين الحكومة والمعارضة بحيث أنه يبقى الاحتراب السياسي قائماً بين اللبنانيين مع تمويه دائم ومطلق لمصدر السلطة السياسية، ولذلك هذه المفارقة بانه ليس نظاماً سورياً يدعم الحكم فقط، وإنما نظام سوري يدعم الحكم ويزور المعارضة في آن".

فالمنظمة، وفق إبراهيم، جزء من يسار بقي على كباش مع هذا النظام من زمن الحركة التصحيحية، مذكراً بالوصف الذي أطلقته مجلة "الحرية" للحركة التصحيحية بصفتها "حركة عميلة للإمبريالية". واذ أشار الى أن التكلم بهذه اللغة منتصف التسعينيات قد يعرض القائل للاغتيال، ذكّر بأن المنظمة مارست بين 1984 -1992 "الاستقلال الصامت" عن السياسة السورية في معظم الأحيان. كان إبراهيم مدركاً إذن ادراكاً عميقاً أن العمل السياسي في ظل القيد السوري يكاد يكون مستحيلاً، حيث المطروح النفي او القتل، فيما البلد يحتاج في الصميم الى "البحث في استقلاله ووجوده وهوية الديمقراطية فيه الى جانب عروبته اللبنانية".

 

وفي مقابل نقده للحرب الأهلية كطريق للتغيير، دعا الى صراع اجتماعي -سياسي يحترم التعددية وقواعد الديمقراطية، وينتهي إلى تسويات متوالية فصولاً، تنقل الوضع اللبناني من طور أدنى من الحداثة والتقدم والعدالة إلى طور أعلى وأكثر تقدّماً، وهكذا دواليك.  

 

لماذا محسن إبراهيم اليوم؟ 

 

كلمة أخيرة. كان محسن إبراهيم من صنف القادة الكبار. هؤلاء الذين لا يتورعون عن النقد والتراجع والتغيّر عندما تصطدم أفكارهم التغييرية بجدار الواقع. فلا يصيبهم التحجّر دفاعاً عن تاريخ مجيد، ولا يصيبهم التحوّل الانتهازي بحثاً عن مكسب شخصي. كان ببساطة يغيّر بحثاً عن طريق جديد للوصول إلى الأهداف النبيلة التي يؤمن بها.

الشك والتساؤل والنقد عدّة حياته العقلية الصاخبة. لذا تراه لا يتردد في مغادرة "شرفة القيادة" عندما تفتقد القيادة مقوماتها الحقيقية، الواقعية والتاريخية. وإذا كان يغادرنا اليوم فإنه يغادر تاركاً خلفه أفكاراً كثيرة وتجارب عديدة، بمقدورها أن تكون رافداً من روافد تأسيس وطنية لبنانية جديدة ذات مضمون ديمقراطي وعلماني واجتماعي حديث.

 

لسائل أن يسأل لماذا محسن إبراهيم اليوم؟ وما الذي يمثله للمعارضة الجنينية النامية بتعثّر شديد بعد انتفاضة 17 تشرين 2019؟ 

 

كان محسن إبراهيم خلال العقود الستة التي مارس فيها السياسة معارضاً جاداً وصاحب مشروع تغيير تقدّمي، تغيّرت وسائله جذرياً من دون أن تتغير أهدافه الكبرى والمصالح الشعبية التي يطمح إلى تمثيلها. 

محسن إبراهيم، إذن، مثّل مشروع معارضة ديمقراطية لم يكتمل. في نتاجه وتجاربه الفكرية والسياسية والتنظيمية الكثير مما قد يلهم أي معارضة جادة للنظام الطائفي اللبناني، وممّا قد يلهم أيضاً محاولات تحويل هذه المعارضات المتناثرة والمشتتة إلى مشروع تغيير وطني يتطوّر ويتقدّم ويتعدّل بشكل دائم، تبعاً لقدرته على إحداث تعديلات جوهرية في موازين القوى السياسية القائمة وبالنتيجة في بنية النظام الطائفي.

هذه القراءة لأهم سمات مشروعه لا تنظر إليه بوصفه مخلصاً، إذ لم يوجد عبر التاريخ مخلّص يتحدث عن أخطائه بقدر ما تحدث عنها إبراهيم. المخلصون يقودهم صوابهم المطلق، أمّا هو فنتاج نجاحاته واخفاقاته على السواء. نتاج هزائمه الكبرى، ربّما، لا بوصفها تراجيديا، وإنما بوصفها شحنة تمرّد وثورة دائمين.

والحال أن هذه القراءة تنظر إليه بوصفه معارضاً يسارياً وديمقراطياً ووطنياً جاداً، مخلصاً لبلده ومدافعاً لا يلين عن مصالح الموقع الاجتماعي الذي يمثّله. وهو أيضاً مثقف نقدي وقائد سياسي شجاع تتفوق عنده الثقافة على الكاريزما. 

عندما انخرط في حركة القوميين العرب، خرج منها وعليها محتفظاً من العروبة بأكثر نسخها تقدماً وعداء للاستبداد. ثم انخرط في منظمة العمل الشيوعي وخرج من التجربة برؤية يسارية هي الأكثر ديمقراطية ونقدية وتقدمية وإنسانية. كان يخوض تجربته للآخر، حتى يصير وإياها كياناً واحداً، يتشبع منها وتتشبع منه. ولكثرة ما أخطأ كان يخرج من كل تجربة بأفضل ما فيها مسلحاً بدروس كثيرة غايتها المثلى أن لا يكرّر المستقبل أخطاء الماضي.  

في تأبينه لرفيق دربه جورج حاوي، أفصح عن بعض الأفكار والمواقف التي لم تكن عنده مفصولة عمّا سبقها وعمّا سيليها. كان آخر ظهور علني له، وقد رثا رفيق عمره الذي سبقه شهيداً بكلمات وجدانية عميقة بدت كما لو أنها رثاء ذاتي. لا أظنه ينتظر تأبيناً أفضل: 


"سلام عليك كلما طلع الصبح على مقاوم يحمي السيادة والحدود، وكلما احتضن الليل مناضلاً هدّه التعب من أجل الحرية للشعب والعدالة للناس. 

 

سلام عليك ما دام لبنان يملك ذاكرة حية تضع الكبار من مناضليه وشهدائه على القمم التي يستحقون". (آب، 2005).

 

 

المجد للخطّائين في سبيل عالم أفضل. لهم المستقبل. 





المجد لمن قال "لا" بعد 17 تشرين وقبله.

 

 

المراجع: 

 

  • موضوعات الوثيقة الفكرية البرنامجية، 4 أجزاء (نصوص غير منشورة)

  • المؤتمر العام الرابع، منظمة العمل الشيوعي في لبنان، من أجل حزب يساري ديمقراطي علماني، من أجل حركة علمانية ديمقراطية لبنانية وعربية (منشورات بيروت المساء، تشرين الثاني 2018)

  • أوراق يسارية، نصوص حزبية لمنظمة العمل الشيوعي (منشورات بيروت المساء، شباط 2016)

  • محسن ابراهيم، الحرب وتجربة الحركة الوطنية اللبنانية (منشورات بيروت المساء، شباط 1983)

  • محسن إبراهيم، لماذا منظمة الاشتراكيين اللبنانيين (دار الطليعة، شباط 1970)

  • محسن إبراهيم، قضايا نظرية وسياسية بعد الحرب (منشورات بيروت المساء، أيار 1984)

  • محسن إبراهيم، آفاق العمل الوطني (منشورات بيروت المساء، أيلول 1984)

  • في الاشتراكية، نص نقدي تحليل لمنظمة العمل الشيوعي (أيلول 1993)  

  • محسن ابراهيم، الحرب الاهلية اللبنانية وأزمة الوضع اللبناني (منشورات بيروت المساء، كانون الاول 1985)

  • لبنان الاشتراكي، العمل الاشتراكي وتناقضات الوضع اللبناني (دار الطليعة، كانون الثاني 1969) 

  • وثائق الحركة الوطنية اللبنانية 1975 – 1981 (مصدر غير مذكور)

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024