يوسف.. قتل غير عشوائي

محمد خير

السبت 2017/06/03
على غير المعتاد، كان اللون الأبيض هو الغالب على مسجد عمر مكرم في ميدان التحرير بقلب القاهرة، رغم أن المناسبة كانت - كعادة المسجد الشهير- مناسبة عزاء. لم يكن منطقيا أن يقام عزاء يوسف العربي في مسجد عمر مكرم، فهو مسجد عزاء المشاهير والشخصيات العامة. أما يوسف، فحين تلقى أصدقاؤه عزاءه يوم الجمعة، لم يكن قد أتم 13 عاماً بعد، ولا يصير الميت شهيراً في هذه السن إلا بمأساة، بل لا يصير ميتاً فحسب إلا بمأساة.

قبل العزاء بأسبوعين، تلقّى يوسف رصاصة في رأسه، وضعته 11 يوماً بين موت وحياة. لم يفلح الدعاء وانتصر الموت. ربما لهذا طلبت أمه المكلومة، القوية رغم ذلك، من المعزّين ارتداء اللون الأبيض، ربما لتحدي كل هذا السواد، سواد الحزن والعزاء والقهوة السادة.

من بين مليون احتمال، اختارت الرصاصة أن تصيب يوسف، ومن بين احتمالات الإصابة كلها اختارت أن تستقر في رأسه. مثل نكتة سمجة بدا الأمر. كان يمشي مع أصحابه، أطفال من سنه، في حيّهم بمنطقة 6 أكتوبر. شعر بالجوع فجأة فتوقف ليشتري شطيرة، تناولها وتابع المشي الخفيف وراء أصدقائه، قبل أن يسقط على الأرض فجأة. ظن أصدقاؤه أن الدم ينفر من رأسه نتيجة سقوطه على الأرض. لم يتوقع أحدهم شكل الرعب الذي اختارهم، لم يتوقعوا أن رصاصة لم يسمعها ولم يرها أحد قد مرت من بينهم، ثم سكنت رأس صاحبهم الذي لم يدرك أبداً ما أصابه. بقي بريئاً غافلاً في سرير عنايته المركزة، بينما كبر أصدقاؤه مئة عام في الأيام العشرة، والتي في نهايتها رحل يوسف من دون أن يعرف لماذا رحل، ولماذا صار شهيراً.

غير أن الرصاصة التي أًصابت يوسف عشوائياً لم تكن حقاً عشوائية، لقد اتضح أولاً أن فتاة أخرى أصيبت في اليوم نفسه وفي الحيّ ذاته بشظية في الظهر، ثم سقطت تباعاً نظريات نسجها خيال السوشيال ميديا عن قناص محترف يتسلى باصطياد المارة في المنطقة. نظريات أحالت إلى أعمال أدبية أبرزها "عطارد" لمحمد ربيع. لكن سرعان ما ظهر التفسير الواقعي: حفلة خطبة، وأعيرة نارية متتالية في الهواء، تقليد ريفي الأصل لاستعراض القوة والنفوذ، مجاملة بطعم البارود والدم، والرصاصات التي أطلقت نحو السماء وجدت طريقها في النهاية إلى الأرض وإلى المارة واختارت يوسف. وحين تم الكشف عن المتهمين –الهاربين إلى لحظة كتابة هذه السطور- لم تكن مفاجأة أن أحدهما ضابط شرطة، والآخر ابن برلماني كان بدوره ضابطاً كبيراً. فليس الموت هنا عشوائياً إذاً. ثمة قاتل وقتيل، ربما لا يعرف واحدهما الآخر شخصياً، لكنهما لم يكونا أبداً ليتبادلا الأدوار. القتلة يطلقون النار حتى في "الفرح"، والملائكة يودّعون بالأبيض حتى في الحزن.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024