هاني شكر الله وصحافته

شادي لويس

الإثنين 2019/05/06
رحل الصحافي المصري والمناضل اليساري، هاني شكر الله، يوم الأحد الماضي، مخلفاً وراءه ألماً وذكرى ملهمة لأحبائه، وفراغاً يصعب تعويضه في مهنته الأثيرة وداخل دوائر اليسار المصري. وتذهب الخسارة التي استشعرها زملاء شكر الله وتلامذته الكثر، أبعد من تاريخه المهني الدؤوب في الصحافة، وأعمق من المحبة التي شهد له بها كل من عرفه من قرب، وعرف دماثته وتواضعه الصادق. فسيرة شكر الله تتعدى الشخصي والمهني بالقدر الكافي لأن نتلمس فيها تاريخ الصحافة المصرية في العقود الماضية، وللنظر في علاقات الجماعة الثقافية بالدولة ومؤسساتها، والتحولات التي لحقت بهذا كله.

فشكر الله الذي رحل عن 69 عاماً، كان واحدا من رواد الحركة الحقوقية في مصر. في العام 1985، أسس، بالشراكة مع سعدالدين إبراهيم، المنظمة المصرية لحقوق الإنسان، واحدة من أولى منظمات المجتمع المدني التي عملت على كشف وتوثيق ومواجهة انتهاكات حقوق الإنسان والدفاع عن ضحاياها. وكانت تلك مقدمة لتحول في مفهوم العمل العام في مصر، وتوسيع حدوده إلى أبعد من النشاط الحزبي والثقافي، وفتح مساحات جديدة للاشتباك مع مؤسسات الدولة، وإصلاحها.

إلا أن علاقات نظام مبارك المتوترة، مع منظمات المجتمع المدني الصاعدة حينها، ومواقف شكر الله المعلنة الناقدة للنظام، لم تقف عائقاً أمام تولي شكر الله رئاسة تحرير "الأهرام ويكلي"، في العام 1991، والاحتفاظ بمنصبه في الجريدة المملوكة للدولة لمدة 14 عاماً بعدها. فنظام مبارك كان من الحصافة والمرونة بما يكفي لإتاحة مساحة داخل مؤسسات الدولة لمعارضيه، ودور للنخب الثقافية والمهنية لبناء صحافته وتطويرها. وكانت لدى شكر الله، مع الكثيرين من العاملين في المؤسسات القومية، قناعة التفريق بين النظام الذي يعارضونه والدولة التي هي مِلك للمصريين، وبتلك القناعة تمسك بالعمل من داخل كل مساحة ممكنة، وتمسك السعي الدؤوب لتوسيع أفقها. لذا، كانت "الأهرام ويكلي"، أكثر الصحف المصرية المملوكة للدولة، نقداً للنظام، وأعلاهم صوتاً، ومدرسة لتخريج كوادر مهنية ومسؤولة، خدمت الصحافة المصرية في مؤسساتها الأخرى.

وفي العام 2008، شارك شكر الله في تأسيس جريدة "الشروق"، والتي كانت حين صدورها واحدة من أقطاب الصحافة الخاصة الصاعدة، وأكثرها استقلالية ومهنية. وبعدها بعامين، وفي العام 2010، عاد شكر الله، إلى "الأهرام"، ليؤسس موقع "أهرام أون لاين" التابع للجريدة باللغة الإنجليزية. ولم يكن ذلك التراكم الطويل من الخبرات والعمل الدؤوب في تلمذة أجيال من الصحافيين، في الإصدارات القومية والخاصة، ممكناً لشكر الله ولغيره، من دون حد أدنى من التسامح الذي تمتع به نظام مبارك، وإدراكه لحاجته إلى الكوادر المهنية، بل وللمعارضة أحياناً، من أجل الحفاظ على تماسك أجهزة الدولة وقدر معقول من كفاءتها.

في العام 2013، وفي فترة ولاية الرئيس مرسي، أُجبِر شكر الله، على الاستقالة من موقع "أهرام أون لاين". ولم يكن التخلص من المناضل اليساري، حدثاً عرضياً، بل جزءاً من حملة تطهير طاولت كثيرين. فلطالما روّجت تيارات الإسلام السياسي، ومن ضمنها جماعات "الإخوان"، لخطاب يتهم اليسار ونخبه الثقافية بالتواطؤ مع الأنظمة الحاكمة في مصر، وغالباً ما دللوا على ذلك بالمناصب التي تولاها المنتمون لليسار والمعارضة العلمانية في إدارات الدولة الثقافية والإعلامية تحديداً. وكانت ولاية مرسي القصيرة، أضيق أفقاً بكثير من منظومة مبارك، ولم تحتمل وجود شكر الله ولا صحافته.

وكان آخِر مشاريع شكر الله، إطلاق موقع "بالأحمر"، المعنيّ بطرح خطاب يساري حول المسائل السياسية والاجتماعية في مصر. لكن نظام 30 يونيو، كان أكثر تزمتاً من سابقيه بكثير. فحُجب الموقع، مع مئات المواقع التي تحمل أي شبهة لمعارضة النظام أو نقده. أما الصحافة الخاصة، ومن ضمنها "الشروق"، فقد فقدت الكثير من مصداقيتها بعد هيمنة الأجهزة الأمنية وتدخلها المستمر في عمل وسائل الإعلام القومية والخاصة. ولا يبدو حال المجال الحقوقي، الذي كان شكر الله من رواده ومؤسسيه، أفضل حالاً، فمعظم العاملين فيه تحت التهديد المباشر بقضايا التمويل.

يترك لنا رحيل شكر الله غصة مؤلمة. فحين ننظر إلى سيرته، لا يؤلمنا رحيله فقط، بل نرى بحزن تلك المهنة التي قضى عمره في خدمتها، ومؤسساتها التي آمن أنها مِلك للشعب، وهي تتداعى جميعاً، وتُحجب أصواتها.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024