حل أميركي: العنف الجماهيري

شادي لويس

الأربعاء 2020/06/03

مقارنة بالنظام السياسي البريطاني، العتيق والأرشيفي والمحمل بإرث تاريخي أرستقراطي، وذي القواعد المتناثرة بين عشرات الوثائق والاتفاقات والتقاليد والأعراف، المدوّن منها وغير المدون، تبدو الديموقراطية في الولايات المتحدة أكثر حداثة واتساقاً وحيوية. وحين تُعقد المقارنة مع الديموقراطية الفرنسية، بثوراتها المسحوقة أو الدموية، وبارتكاساتها، بجمهورياتها واحدة بعد أخرى، صعوداً وهبوطاً، ودساتيرها المعدلة، تظهر الديموقراطية الأميركية أكثر رسوخاً واستقراراً. لكن صعود النظام السياسي الأميركي إلى مصاف النموذج، تأسس على أكثر من هذا، الرواج الهائل لوسائل الإعلام والسينما الأميركية، والتي بفضلها أصبح التاريخ السياسي الأميركي جزءاً من ثقافة جماهيرية حول العالم. ثورة الاستقلال، والآباء المؤسسون، ثم الحرب الأهلية، وصولاً إلى حركة الحقوق المدنية وفضيحة "ووترغيت".. هذه كلها وفّرت مادة دسمة لماكينة الإنتاج الدرامية والسينمائية، واكتسب بعض من أعمالها صفات الكلاسيكيات العالمية، ومعها وبها ارتبطت تصوراتنا عن الديموقراطية.

وعلى مستوى الثقافة العليا، شكلت أدبيات الكتّاب والفلاسفة والأكاديميين الأوروبيين الفارين من الهولوكوست النازي والقمع الستاليني، إلى الولايات المتحدة، أساساً لبناء فكري معاصر، يتمحور حول موطنهم الجديد. وحتى وإن كانت تلك الكتابات في معظمها نقدية، فذلك النقد ظل مركزاً على السياسة والمجتمع الأميركيين، بحيث أصبح من غير الممكن طرح أي تصور نقدي للعالم من دون الاستعانة بمرجعية الولايات المتحدة وسياقها السياسي. وبفضل تلك الصورة المهيمنة عن الديموقراطية الأميركية، تمتعت الولايات المتحدة، أثناء الحرب الباردة، بأفضلية أخلاقية، مقارنة بخصومها. ومع انهيار المعسكر الشرقي، كثفت الإدارات الأميركية المتعاقبة من الترويج لنموذجها السياسي حول العالم، بحيث أصبح نظام فصل السلطات الثلاثي، والفيدرالية على النسق الأميركي، بشكل مباشر أو غير مباشر، هو محور الخطاب السياسي المعارض والحقوقي والقانوني في دول الجنوب.

لكن المنظومة التي ظلت مناعتها محلاً للشك والنقد المتواصل، أثبتت هشاشتها الشديدة مع تولي دونالد ترامب الرئاسة. فخلال أربع سنوات، انتهك الرئيس الأميركي كل ما يمكن وصفه بالأعراف والقواعد الديموقراطية، بل حتى أُسس اللياقة العامة، وثبت تلاعبه بالسياسة الخارجية لبلاده لصالح مكاسب انتخابية شخصية، وتورط في التحريض على الكراهية والتنمر على الأقليات والنساء والمعوقين بشكل وقح وعلني ومتواصل، وأدار بشكل كارثي مواجهة الوباء الحالي، وفي كل هذا فشل نظام "فصل السلطات" وكذا "التقاليد الديموقراطية" للمؤسسات في كبح جماحه، بفضل الدعم شبه المطلق الذي يحظى به من الحزب الجمهوري في المجلسين التشريعيين، وانتهت محاولات عزله إلى فصل المسؤولين عن التحقيقات والشهود الذين شاركوا في تجميع الأدلة لإدانته. وبالطبع لا يمكن تحميل ترامب مسؤولية إفساد النظام السياسي في بلاده، لكن يمكن إرجاع الفضل إليه في التأكيد على حدود فاعليته ونقائصه، بأكثر الأشكال فجاجة.

بأكثر من مئة ألف ضحية للكورونا، والعدد الأعلى من المصابين حول العالم، ونسب للبطالة هي الأكثر فداحة منذ الكساد الكبير، بحوالي أربعين مليون عاطل عن العمل، وبمجتمع منقسم وتتصاعد فيه الكراهية بين جماعاته وطبقاته، وفي وقت يعلن فيه عن منظمة معادية للفاشية كجماعة إرهابية، ويهدد ترامب المحتجين بإطلاق الرصاص والكلاب الشرسة، وتظل فيه المؤسسة السياسة شبه عاجزة، يبدو الحل الوحيد ماثلاً في العنف الجماهيري.

أطلقت جريمة مقتل جورج فلويد، الاحتجاجات في الشوارع، لكنها لم تكن سببها. الانفجار الضخم لأعمال التخريب والنهب، ليس الأول من نوعه، لكنه يبدو الأوسع والأكثر حدة منذ الستينات، بفضل تراكمات تاريخية من الضغوط تحت البنية العنصرية والتمييزية، وأوضاع اقتصادية تسوء. وهذا كله يقترن بشعور عميق باليأس من قدرة المنظومة السياسة على تصحيح مسارها. ربما يستطيع ترامب، كعادته، تحويل الاضطرابات لصالحه، بتصعيد خطابه العنصري ضد المحتجين واللعب بورقة الأمن، ليعود ويظهر في صورة الرجل القوي. لكن حتى ولو حدث ذلك، فالكلفة المادية والمعنوية ستكون عالية، والنتيجة مؤقتة. يظل العنف الجماهيري الأداة الأكثر فاعلية في ضبط أي نظام سياسي، لا في قدرة العنف على إحداث التغيير مباشرة بالضرورة، ولا حتى تهديد دورة الحياة اليومية ومصالح النخب بشكل مؤثر، بل في مجرد تأكيد إمكانيته، بوصفه احتمالاً قائماً، كشبح يحوم دائماً، الكابوس المؤرق والمتواتر والمؤسس لكل منظومة ديموقراطية ولكل محاولة لإنقاذها.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024