جبهة النصرة والسؤال الأخلاقي

أحمد الباشا

الإثنين 2013/03/18
 كثر الحديث في الفترة السابقة عن تنامي دور جبهة النصرة في الأشهر الأخيرة من سيرورة الثورة السورية، وباتت الاتهامات ترمى جزافاً، البعض راح يضخم دورها حتى جعلها المارد الذي يطبق الأنفاس على الثوار في الداخل، وذهب في المغالاة أكثر فصوّرها على أنها  التنظيم المهيمن على فصائل "الجيش الحر".
من الطبيعي أن تقوم الماكينات الإعلامية الأسدية  وأخواتها  بجعل جبهة النصرة مطيةً للتأثير في جماهيرها، وأن تقوم  بقذفها في كل لحظة بأبشع الصفات لتزيد من فوبيا كل من يقف في صف الأسد، ولتخلق أيضاً ارتباكاً بين صفوف الثائرين على نظام البعث من خلال استجرار إدانات ومحاذير من المجتمع الدولي.
فمنذ أول بيانات جبهة النصرة انهمك بعض الناشطين وشريحة واسعة من المثقفين بدحض وجودها، والتشكيك بوجود مثل هذا التنظيم على الأراضي السورية، منطلقين من القضية ومناصرتهم لها  وليس من الواقع وشروطه- وما جبهة النصرة إلا حيلة مخابراتية صنعها نظام الأسد لتضييق الخناق على حنجرة الثورة السورية- ولكن مع تصاعد الحملات العسكرية، وتوجيه سبطانات المدافع صوب المدن السورية وقراها، وغزو سماءاتها بمقاتلات لم تعرف من قبل سوى الطلعات الاستعراضية أو التدريبية، تحولت هذه الحيلة المخابراتية "جبهة النصرة" إلى أمر واقع وفصيل مقاتل على الأراضي السورية يقف إلى جانب كتائب "الجيش الحر".
ومع توسع هالتها ضمن المشهد العام للثورة السورية اتبع بعض المثقفين سياسة النأي بالنفس أو غض البصر، متجنباً انتقاد سلوكيات عناصرها، ولم يكتف بذلك فقط بل استمر بإكمال رومانسياته عن الثورة السورية.
تتصاعد القاعدة الشعبية لجبهة النصرة، وذلك بسبب كثرة الحديث عن سلوكيات مقاتليها "لا يسرقون ولا يغتصبون ولا يحرقون... الخ". ويطول الحديث عن  تفانيهم أيضاً في القتال ضد جيش النظام ونسف حواجزه ومقراته وتدمير آلياته، طبعاً دون أن نغفل الدعم الاستثنائي الذي تحظى به مادياً و إعلامياً، العوامل  التي  ستؤدي إلى تشابك  المسؤوليات الأخلاقية والسياسية، والوطنية حتى، ليتضح  الموقف تجاه شرعيتها ودورها المستقبلي في مرحلة ما بعد الأسد.
ما تتسم به مواقف  الثلة السابقة من "مثقفي الثورة " وأنصار "كل شيء" هو الاستسهال الفكري والنظرة الآنية، أو لعله الخوف من تجريدهم من صفة "الثورية"، وكأنها محاولات للحصول على صكوك غفران تؤكد انحيازهم المطلق والدائم  للثورة السورية. 
ممارسات الإقصاء التي أحالت الساحة السورية إلى بازار للخيانة،حيث  افتتحه الأسد الأب، واستمر الإبن في رعايته، مفسحاً المجال لأي كان بأن يرمي الاتهامات كيفما اتفق، بل وأن يُنظر لموالاته المتطرفة، الموالاة هنا ليست للثورة، بل لكل من يشترك في عدائه مع هذه العائلة، وكأن المسألة تصفية حسابات وتمزيق للخصم كيفما اتفق،  فالهشاشة النفسية بعد سنوات عانوها من التغييب والٌإقصاء لا يمكن أن تندثر بين ليلة وضحاها، وتظل رواسبها تطفو على السطح وتشوب مواقفهم وتزيد من ضبابيتها، لتبقى إطلالة  الممارسة النقدية على رقعة المخاصمة هي أداة عدائية من دون أن تكون في صلب عملية البناء.
"أخطاء فردية" إنها الديباجة المعتادة التي تسلحوا بها عقب كل حادثة، لعلها تزيح الأرق عن صدورهم  وتجلب السعادة لضمائرهم، فهم قد قاموا بدورهم النقدي والتاريخ سيذكر ذلك! ولم يكلفوا أنفسهم عناء الذهاب أبعد  من ذلك، عن دور مثل هذا الفصيل وشراكته  في صناعة  "الدولة"، الشكل الذي تصنعه خيوط الآن وهنا، و ليس ما في الأذهان من رؤى وقراءات تجلب البهجة، لكنها بمجملها تشذ عن الواقع، لتخلق الفصام معه، فتبقى حبيسة عظام الجمجمة التي تتصدع يوماً بعد الأخر، وتبتعد عن جسد الثورة. 
ما تقتضيه المرحلة ليس الإقصاء ولا المناصرة العمياء، حتى سياسة التجاهل لن تقي صاحبها من قسوة الأسئلة الراهنة والمستقبلية، فجبهة النصرة وشبيهاتها اليوم ليست سوى نماذج عن كتائب وتشكيلات قادمة ستفترضها ضراوة الحملات الوحشية، مع الأخذ بالحسبان البدء بالتجذر الأيديولوجي وانصهاره بالعقائدي والثوري أيضاً، وما يحدث اليوم يمهد الطريق أمام حصر هذه الأصوات، وخاصة بعد  أن انتهجت هذه الشريحة نموذج المثقف "الكوني" براديكالية مطلقة، فباتوا  يتقمصون  وعي الجماعة ويقولون لسان حالها، والذي سيؤول حالها حتماً إلى العري المطلق، وليغدوا أداةً دعائية، تقبع بإيمان راسخ تحت شعار "لا يفل الحديد إلا الحديد"، فهل سيقتصر دورهم الراهن على وشم الآتي بخاصية الاستنساخ؟!
 
 
 
 
 
 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024