بيروت_مدينتي أول العنقود

مهند الحاج علي

الجمعة 2016/05/06

ذاكرتي عن بيروت ترتبط بحكم ميليشياتها: حواجز وخوات وانعدام كلي للأمان. لم تتسع بيروت الثمانينات لأماكن عامة، وقد تحوّلت هذه دُشماً، لكن شارعنا الضيق كان ملعباً للأطفال. إلا أن والدتي البيروتية زودت مخيلتي عن المدينة. كان الترومواي الأحمر اللون يأخذها من محطة المزرعة إلى الكابيتول، قرب تمثال رياض الصلح. هزّات الرحلة تُثير ضحكات كثيرة، وخصوصاً بين صغار السن. كانت الحافلات قديمة، وتترنح حتى تصل إلى محطتها. الأهم أن الناس كانت تضحك. متى آخر مرة رأيتم فيها أطفالاً يضحكون في النقل العام؟

بيروت هذه لم أتعرف اليها، لكن تشربت ذاكرتي صوراً منها لعبت دوراً في تشكيل طموحاتي عن مدينة عُشت وتربيت فيها. وما أسعف بعضاً من ذاكرتي أنني ترعرعت في منزل بيروتي قديم بُني مطلع القرن الماضي، ويضم حديقة وبركة ونافورة وأشجار ياسمين وغاردينيا. السقف العالي والبلاط القديم والشرفة كانت الحديقة تضم شجرة مانغا قديمة، تسابقنا كثيراً لالتقاط حباتها كلما سمعنا دوي السقوط. هذا المنزل الأندلسي الطابع بيع قبل فترة طويلة، ثم هُدم بعد تحصيل رخصة من المجلس البلدي الحالي. بات موقفاً للسيارات بانتظار مشروع تجاري. أختي أبلغتنا بالنبأ باكية. لم أصدق. مررت سيراً على الأقدام أمامه، حاولت استراق النظر. البلاط القديم اختفى، كما الملامح. أنا أيضاً سرقوا ذاكرتي. 

في الفترة ذاتها، قرأت خبراً عن هدم منزل الكاتب أمين معلوف، ورأيت مباني تراثية تختفي. فندق الكارلتون التاريخي اختفى أيضاً، وبات برجاً للشقق الفخمة. طبعاً، البلدية ووزارة الثقافة تتقاذفان المسؤولية، وتمنحان الرخص فرادى. 

هذه التغيرات الكبيرة في تراث العاصمة تبدو أكثر وضوحاً من البحر. صياد بيروتي يصطحب السواح في جولات أمام عين المريسة، قال لي إن مشهد القرميد الأحمر من البحر كان حتى الثمانينات، يعكس ضوء الشمس، فيصير وهجاً. هذا الضوء يتصل بأضواء ليالي بيروت وما تبقى من شبابيكها الخضر. هذه البيوت تدمرت الواحدة تلو الأخرى تحت أعين المجالس البلدية السابقة والحالية. وبوتيرة متسارعة لا يُفسرها سوى وجود رؤساء مقاولين لا يرون في بيروت سوى صفقات وفرص.

ثقافة المشاريع التجارية لا ضوابط لها، إذ يندر وجود شارع في بيروت بأرصفة تتسع لنا. على كل من يرغب في المشي، التوجه إلى كورنيش البحر حصراً لأن من يدير مدينة بعقلية مقاول، لا يرى فيها مكاناً للمشاة. وهذا ما عبّرت عنه الزميلة ديانا مقلد بوضوح، أنها “تعرفت على شوارع وأرصفة بيروت في فترة الحرب بما فيها من دشم وحواجز واهتراء.. اعتقدت حينها أن الحرب هي سبب ارتباكي وعدم ارتياحي لدى السير في الشوارع.. مر ثلاثون عاما على ارتباكي الأول في شوارع بيروت وما زلت عاجزة عن السير على الأرصفة بشكل طبيعي”. وكل من يقطن بيروت يعرف صحة هذا الكلام، لكن ذلك لم يُعف صاحبته من مضايقات وحملات مُوجهة على وسائل التواصل تُهددها بعملها، وتُذكر بسلوكيات الممانعة ضد من يخالفها الرأي.

مقابل هذا المشهد السوداوي، جاءت لائحة “بيروت مدينتي”. مرشحون ومرشحات، ليس بينهم ممثل لميليشيات الحرب بكافة فروعها، يخاطبون سكان العاصمة بلغة لم يسمعوها قبلاً: أرصفة للمشاة، حدائق عامة ونظافة وبيئة صحية. وتكمن أهمية الخطاب الانتخابي للمجموعة في تفاصيله الهندسية وطريقة عرضه بالفيديو على وسائل التواصل الاجتماعي. فيديو رصيف طريق الجديدة يُظهر إمكانية حقيقية لتحويله الى مساحة صديقة للمشاة، وكذلك محطة مار مخايل ونهر بيروت.

وبيروت مدينتي، إن فازت أم خسرت، فرضت تحدياً انتخابياً حقيقياً أمام قوى السلطة المؤتلفة بالقائمة الأخرى. وأي نتيجة انتخابية فيها ستُدحرج كرة ثلج المستقلين في بلدات ومدن أخرى في الانتخابات النيابية المقبلة، إن حصلت، إذ بات على المستقلين عدم ترك الساحة الانتخابية خالية لمن أثبت مراراً عدم جدارته في إدارة المصالح العامة. 

بيروت مدينتي أعادت السياسة إلى مربعها الأصلي: الناس.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024