فراعنة.. أين الذهب؟

محمد خير

السبت 2019/10/19
ليس نبأ اكتشاف مجموعة من التوابيت الفرعونية، بالخبر النادر في مصر، لكن مجموعة توابيت "العساسيف" التي اكتشفت حديثاً بالقرب من معبد الملكة حتشبسوت بالأقصر، والتي يُعلن عن تفاصيلها رسمياً، اليوم السبت، لفتت انتباه الإعلام المحلي والدولي بسبب الحالة الزاهية التي اكتشفت بها، بسبب بقاء ألوانها متألقة كأنها لوّنت يوم أمس، ولأن "الخبيئة" بقيت كما هي، من دون عبث بمحتوياتها منذ دفنت قبل آلاف السنين في عصور الأسر الفرعونية الـ18، والـ25، والـ26 ، فخرجت في حالتها الطبيعية، قطعة من التاريخ المجيد والفن الرائع، تستيقظ في القرن الحادي والعشرين، لكن الفرحة بهذا الكشف التاريخي والفني لم تكن موقف الجميع.

"فين الدهب؟"، يتساءل أحد المواطنين في صفحة إخبارية نشرت مجموعة صور رائعة من الكشف الفرعوني. وسرعان ما اتضح أن تعليق المواطن المتسائل عن الذهب، لم يكن إلا مفتتحاً لسيل من التعليقات الشبيهة، تعليقات تستنكر أن يضم الاكتشاف توابيت وتماثيل من دون "كنوز"، ويجزم بعضها أن هذه الكنوز قد "سُرقت بالطبع" قبل الإعلان عن الاكتشاف!

"إلحق يا محمد أبوك لقى تمثال ومحتاجين حد أمين يصرفه"، عبارة هي نصّ رسالة قصيرة أرسلت لعدد هائل من الهواتف المصرية طوال سنوات. إنها النسخة المصرية من رسالة أرملة الرئيس الإفريقي التي تريد شخصاً يعاونها في نقل ثروته. واعتادت عصابات –معظمها من نيجيريا- إرسال الملايين من رسائل النصب تلك من أجل ضمان الإيقاع –كحقيقة إحصائية بحتة- ببعض المغفلين وسرقة أموالهم. أما في مصر، فأعلنت السلطات في 2017، إلقاء القبض على عصابة "إلحق يا محمد أبوك لقى تمثال"، والتي كانت تبيع للراغبين تماثيل وعملات فرعونية مقلّدة بالطبع. ورغم القبض على عصابة النصب تلك، إلا أن الإيمان الشعبي بـ"كنوز" الفراعنة لم يخفت، إنه الحلم بثروة مفاجئة، رغم ضرورة الحاجة إلى "شخص أمين يصرفها"، إذ يمنع القانون المصري الأشخاص من امتلاك القطع الأثرية.



للإشارة إلى ابتعاد الحضارة الفرعونية في الزمن وطول مدتها، يُستخدم المثال التالي "المسافة الزمنية بين بناء الهرم الأكبر وميلاد المسيح، أكبر بكثير من المسافة بين ميلاد المسيح وزمننا الحالي". ليست الدولة المصرية القديمة إذًا بعيدة في الزمان فحسب، بل ممتدة أيضاً لأكثر من 5 آلاف عام، ويعني هذا أن المصريين اليوم يعيشون حرفياً فوق طبقات وطبقات من تراث أجدادهم الفراعنة، فوق توابيتهم وممراتهم وقنواتهم وبيوتهم. وبالحفر حتى عمق مناسب تحت أي مكان تقريباً، يمكن العثور على آثار فرعونية. وهنا يكمن التناقض، فالكثرة الهائلة لتلك الآثار تخفض من القيمة المالية التي يتصورها الحالمون بـ"الكنوز". ورغم أن السلطات في حالة حرب مستمرة مع مهربي الآثار، وصراع آخر لاستعادة ما يتم تهريبه إلى المتاحف الأجنبية، إلا أن تركيز المهربين والمتاحف ينصب على قِطَع لا يعرف قيمتها سوى المتخصصّين، وهي بالتأكيد ليست "كنوزاً ذهبية" كما يتصور المعلقون في صفحات الأخبار، اللهم إلا إذا كان الكشف متعلقاً بمقبرة ملكية، وبألا تكون تلك المقبرة قد تم اكتشافها ونهبها في العصور القديمة، وهو كما نعلم، أمر نادر جداً جداً، يكاد لا يتعلق إلا بمقبرة واحدة هي تلك الخاصة بالملك توت عنخ آمون.

لكن ما سر انشغال مصريين كثر "بالذهب" كلما اكتُشفت خبيئة فرعونية؟ أهو الفقر واليأس، اهتزاز الثقة بالسلطات المعنية، أم، مع ما سبق أو بعضه، عدم المعرفة الجيدة بالماضي الفرعوني وطبيعة "كنوزه"؟

ليس سراً إن ما يوفّره التعليم المدرسي عن الماضي المصري القديم محدود للغاية، بل يفتقر إلى التعريف بعصور مصرية كاملة، كعصر مصر القبطية الذي امتد مئات السنين. ولأسباب قومية/دينية صار التلميذ المصري، يعرف عن فتوحات طارق بن زياد في الأندلس، أكثر مما يعرف عن وجوه الفيوم. وليس غريباً إن صار ذاك التلميذ في ما بعد، فريسة للتيارات الدينية التي لا تنتمي إلى ماض تعتبره دينياً فحسب، بل إلى نسخة منقّحة ومتخيّلة من ذلك الماضي. تلميذ كبر وصار مشجعاً رياضياً يفضّل أن يسمّي فريقه الوطني لكرة القدم "منتخب الساجدين" بدلاً من الفراعنة. أما "أجداده"، فهم مهمّون على حسب ما يساوون من ذهب أو يجلبون من سيّاح. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024