"السترات الصفر"وماكرون: هذا ما يجمعمها

أحمد مغربي

الأربعاء 2018/12/05
الأرجح أن ثمة ثقافة آتية "من تحت" تجمع حركة "السترات الصفر"، والرئيس إيمانويل ماكرون، رغم تصادم الطرفين. ويشي التصادم بينهما بإعادة صوغ مشروع الحداثة والديموقراطية، بمطارق تهدم "أوثان الحداثة"، باستعارة من فريدريك نيتشه، في لحظة تتشابك فيها التناقضات، فتكون على غير ما تظهر عليه للنظرة الأولى. ربما تتكثّف التناقضات، بما فيها من هدم يترافق مع إعادة صياغة، في حوار ماكرون- "السترات الصفر" وهو مفتوح الأفق على تجديد ضمني لصيغة العقد الاجتماعي و/أو استقالة الرئيس وصعود شعبويّة منفلتة يظلّلها اليمين المتطرف بزعامة مارين لوبن!

وتذكّر تلك المشهدية بباريس 1968، و"ثورة الشباب" كإعلان آنذاك عن ثقافة ما بعد الحداثة في فرنسا التي هي من مهود الحداثة. وربما عملت التظاهرات، التي جاءت بعد انتخابات هدمت البناء السياسي التقليدي لفرنسا، على التذكير بفكرة أنها البلد الذي "تسير فيه التناقضات دوماً إلى أقصاها"، وفق فكرة شهيرة لكارل ماركس في كتابه "الثامن عشر من برومير" الذي رصد تحوّلاً "تراجعيّاً" في مسار الثورة الفرنسيّة. هل "السترات الصفر" هي حركة "تراجعيّة" في مسار الحداثة المعاصرة (بالأحرى مسار ما بعد الحداثة)، كما يوحي نفورها من العولمة الأميركية التي سعت إلى تعميم عالمي لنموذج الديموقراطية النيوليبرالية، وكذلك سلبيتها حيال الأوروبي الذي عبر عن تقدّم في مسار الحداثة الغربيّة وما بعدها؟ هل أنها على عكس ذلك تماماً، حركة يتمازج فيها الهدم مع البناء، فتكون أقرب إلى صورة استكمال ما بعد هدم الحداثة، وهي التي تحدث عنها المفكر الألماني مارتن هيدغر في تفسيره لفكرة نيتشه عن "هدم أوثان الحداثة"؟

الهدم والشبكات لربط "السترات" بماكرون
من المستطاع البدء بالتقاط خيوط تجمع حركة "السترات" بالرئيس ماكرون. بداية، هناك التهدم الواضح في البنية التقليدية للمؤسسة السياسيّة في فرنسا. صعد ماكرون بسرعة البرق قبيل الانتخابات الرئاسيّة في 2016، محمولاً على حركة "إلى الأمام" الآتية من خارج المؤسسة التقليدية الفرنسية التي كانت أيقونة راسخة لثقافة الحداثة والديموقراطية كمشروع سياسي لها، وعبّرت عن تصدّعها وانهيارها. وبدا ماكرون في مكان ما، متقاطعاً مع صعود ثقافة الشعبويّة المعاصرة في الغرب (تمييزاً لها عن الشعبوية المُدمّرة للنازية والفاشية)، والتي كان انتخاب الرئيس دونالد ترامب تعبيراً واضحاً عنها. وربما ليس صدفة أن صداقة ما جمعت الرجلين إلى وقت قريب، قبل أن يطيحها تطرف ترامب! في مكان ملتبس، وقف ماكرون بين ثقافتي الحداثة وما بعدها من جهة (إذ هزم مرشحيها من حزبي المؤسسة السياسية)، وبين الشعبوية التي هزم مرشحتها مارين لوبن من جهة ثانية. لكنه كان أيضاً "جزءاً" من تلك الشعبويّة، بمعنى تصدع مفاهيم الحداثة وما بعدها في صفوف جمهورها الواسع. لعل ذلك مؤشر آخر إلى مدى "تحتيّة" ثقافة الشعبوية أيضاً.

كذلك تربط الشبكات الاجتماعية بين ماكرون و"السترات". فقد كانت شبكة الانترنت، خصوصاً السوشيال ميديا، أداة أساسيّة، مكنّت حركة لم تكن معروفة، يقودها شخص (ماكرون) شبه مغمور سياسيّاً، من التفوق في انتخابات الرئاسيّة. بل أمّنت له شعبيّة قاربت الـ60% وعزّت على معظم رؤساء فرنسا في الجمهورية الخامسة. وكذلك شكّلت السوشال ميديا أداة فضلى في صعود الشعبوية المعاصرة عموماً، خصوصاً في أميركا التي مازالت مسألة التدخل الإلكتروني الروسي تجرجر نفسها فيها، وكذلك الحال في السويد والدنمارك وإيطاليا وغيرها.

وترافق ذلك السياق مع التأشير إلى صعود بُعد جديد في الفرديّة المعاصرة غرباً، إضافة الى تملكها فردية المواطنة، ويتمثل في "الواقع الفائق- الفعلي" Hyper Reality- Actuality. وذلك في إشارة الى التداخل بين الحياة الافتراضيّة والفعليّة من جهة، وقدرة ذلك التداخل على التأثير في مجريات الحياة اليوميّة الفعليّة للناس. يعطي انتخاب ترامب وماكرون وغيرهما، نموذجاً عن "الواقع الفائق- الفعلي". والمفارقة أن ألسنة كثيرة لاكت كلاماً عن استناد حركة "السترات" إلى شبكات السوشيال ميديا، وصولاً إلى بلورة ممثلين لها في الحوار مع الإليزيه مع احتفاظ الحركة بلامركزيتها، من دون الإشارة إلى دور مماثل أدته الشبكات الافتراضيّة أيضاً في انتخاب ماكرون نفسه. هناك طرفان متصادمان، لكن لعلهما لم يصلا إلى هذا التصادم من دون نسيج عميق يربطهما أيضاً، وهو من التناقضات المألوفة في السياقات الاجتماعية الواسعة، خصوصاً من منظور الثقافة والتاريخ.

وهناك استطراد يفرض نفسه، ويأتي من التشابه بين مشهدية ماكرون- "السترات"، وبين ثورة شباب1968 والرئيس الجنرال شارل ديغول. باختصار، عبّرت الـ1968 عن تمرّد أولي عميق على التكلس في مشروع الحداثة، والأرجح أنها كانت من بدايات مرحلة ما بعد الحداثة فيها. وبالاسترجاع، بل باستعادة صورها في كتابات نقّاد الحداثة، بدت الـ1968 غناءً بنبرة حادة عن رفض تحوّل الحداثة إلى ميتافيزيقا بديلة، وهو ما قال به قبل عقود من ذلك العام، مفكرون مثل نيتشه وهيدغر، ثم أكمله مفكرو البنيويّة والوجودية وثقافة المتخيّل وغيرهم.

وبإعلائها ثقافة الجسد مدخلاً لرفض بنى السياسة والثقافة، تضمنت الـ1968 أيضاً، تشديداً على البعد غير العقلاني وغير المنضبط بالمنطق، للكائن الإنساني. ويعني ذلك قبول الإنسان بمعناه الواسع، وعدم قصره على عقل المنطق كما ظهر في الكوجيتو الديكارتي الشهير "أنا أفكر، إذاً أنا موجود". إذ يحتمل الكائن الإنساني أيضاً أبعاداً أخرى فيها الغامض والإلهي والروحي والشهواني والمغرم والمشغوف والمفتون والأهوائي وأعمال الحدس والتباسات النفس وغيرها. لا تكون الحداثة ميتافيزيقا، بل يتجدد عقلها وعقلانيتها بالأبعاد الأخرى للإنسان. ألم تكن "العقلانية المتوحشة"، (وهي شعبوية القرن العشرين كما تبدت في النازية والفاشية وتيارات من الشيوعية)، حذرة دوماً من سيغموند فرويد وكارل يونغ وفيلهالم رايش وهربرت ماركوز، وهم الذين ارتادوا بالعقل مفازات الغامض والروحاني والنفسي في الإنسان؟ ألم يترافق تيار ما بعد الحداثة، مع أعمال اهتمت بتلك الجوانب عينها، كاهتمام ميشال فوكو بالجنون، وكلود ليفي شتراوس بنظام الهدية والمآكل والعادات عند القبائل البدائية، ورولان بارت بالموضة والمضمر، وبيار بورديو بالرمزي وغيرها؟

الأرجح أن الخيط الذي يربط تلك الأشياء وغيرها، هو النقد المزدوج للحداثة، بمعنى رفض تحوّلها ديناً ميتافيزيقياً، وقبول الأبعاد غير العقلية عند الإنسان كجزء من استكمال تمرّد الحداثة نفسها على الميتافيزيقا الدينيّة. والأرجح أن ذلك التشابه يصح، سواء سقط ماكرون تحت مطارق "السترات"، أو العكس، رغم أن الحالين ليسا متشابهين، ولا يحملان المعنى نفسه في الثقافة والسياسة.

أين هي الفرادة؟
في كتابيه "تحطيم الأوثان" و"ما بعد مبدأ الخير والشر"، تحدّث الفيلسوف فريدريك نيتشه عن تمرّد يحطّم التماثيل كافة، يدوس الأثقال كلها، ينتقد القيم بأكملها، بما فيها قيم الحداثة والدين المتمحورة حول مبدأ الخير والشر. وفي قراءته له، أشار مارتن هيدغر إلى أن ذلك التمرّد النيتشوي ربما يشكّل بداية الإنسان العدمي. لكنها عدميّة من نوع خاص تمتلك الوعي مع شيء آخر، يتمثّل الرغبة في "استكمال" ما. لكنه استكمال لا يسير وفق نموذج مسيطر أو فكرة مهيمنة، بل أكثر بساطة وأقل قوة، ومنفتح على وقائع التنوّع والتعدّد في حياة الكائن الإنساني وحضاراته.

وفي نظر هيدغر، لم تكن العقلانية سوى ميتافيزيقا أخرى، حطّمت ميتافيزيقا القدماء والأديان، لكنها أعلت صوت ادّعاءاتها القويّة بأنها تستطيع أن تحلّ محل تلك الميتافيزيقا، واستولت على الإنسان ووجوده وكونه (ثم وضعته في مركزيّة وجودية قاسية). فصارت العقلانية ميتافيزيقا بديلة. وبفعل أشياء، من بينها تقدم العلوم، أُزيح الإنسان من مركزيته في الوجود بالتدريج، وكذلك انكشفت حاجة أرضه الواطئة إلى "أعمدة سماء" أيضاً. ألا يبدو صعود الأديان واضحاً في الأزمنة المعاصرة؟ ألم يتفرّد ماكرون نفسه بامتلاك ذلك البعد في التجدد الديني بأن قبل تكريماً من الفاتيكان بوصفه راعياً للإيمان الكاثوليكي، وهو أمر نأى عنه كل رؤساء فرنسا العلمانية وبرره ماكرون، بأن العلمانية فيها مساحة للأديان كافة؟ ألا يبدو ذلك قريباً من ترافق صعود نجمه مع بروز الهم الديني في التاريخ الفرنسي الاجتماعي، خصوصاً بالنسبة للدين الإسلامي؟

في المقابل، تستولي على الشعبوية المعاصرة، بما فيها "السترات الصفر"، قوة حضور الدين، إضافة إلى مكوّنات في ثقافة الهويّات التي صعدت بقوة مع زمن العولمة. ربما يفسر ذلك تناقضاً فريداً في حركة "السترات الصفر" هو انتقالها (المفاجئ على السطح) من المطالب الاقتصادية الصرفة كالضريبة على الوقود، إلى مطالب فائقة الاتساع من بينها معاداة العولمة والاتحاد الاوروبي، بل كل ما يبدو "مهدداً" لاستمرارية تفرّد الهوية الفرنسية، بما فيها البعد الديني الذي تنطق عنه بجلاء ألسنة مثل مارين لوبن. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024