بين معراب والكوفة

حسن فحص

الأحد 2019/10/27
اوجه الشبه كثيرة بين ما تشهده الساحة اللبنانية وما تشهده الساحة العراقية منذ بداية شهر تشرين اول/ اكتوبر 2019، ان كان لجهة ازمة النظام التي يعانيها النظام في كلا البلدين والتي اعترف بها رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون ورئيس الوزراء العراقي عادل عبدالمهدي، او لجهة الفساد المتفشي واساليب النهب التي ابتدعتها الطبقة السياسية والمالية والاقتصادية والقوى الحزبية في كلا البلدين، وان كان لجهة ازمة ما يمكن تسميته بالمؤسسات العسكرية الموازية، وان كان في العراق قد تم التوصل الى آلية للخروج منها ماتزال في بدايتها من خلال ضمها الى المؤسسة العسكرية للدولة في محاولة لاحتوائها، اما في لبنان فان الثلاثية التي تضمنها البيان الوزاري لم تستطع ان تزيل الحساسيات السياسية لدى العديد من الاطراف المشاركة في السلطة من بقاء هذه المؤسسة خارج سيطرة الدولة وقراراتها الاستراتيجية، فضلا عن رفض اطراف اقليمية لمثل هذه الحلول ما شكل وضعا معقدا قادراً على تفجير الاستقرار في البلدين في لحظة تباين بين القوى الاقليمية على حدود نفوذها وساحاته. 

بعيدا عما يعتري الحراك العراقي من طابع عنفي في بعض الساحات والمحافظات، الا ان اوجه الشبه في الشعارات التي تطرحها كل من بغداد وبيروت تكاد تتطابق، ان كان في الخطابات التي توجهت بها الرئاسات في كلا البلدين او في المطالب التي دفعت الشارعين الشعبيين الى التحرك والنزول الى ساحات الاعتراض والدعوة الى التغيير، وصولا الى كسر كل المحرمات السياسية التي طالبت باسقاط النظام مرورا بمحاربة الفساد ومحاسبة الفاسدين والغاء المحاصصة وصولا الى استعادة الاموال المنهوبة ومحاكمة الناهبين. 

على الرغم من شعبية هذه التحركات، وبروز قوى ذات طابع يساري علماني خاصة في بغداد ، فان هذا التيار الذي يرفع شعار العلمانية قد اصابته اكثر واعمق الجراح من العملية السياسية كما في لبنان ادت الى اقصائه واستبعاده عن المشهد السياسي والمشاركة في العملية السياسية على الرغم من عراقته التاريخية في كلا البلدين، والمشاركة الواضحة لبعض الناشطين في هذا التيار واضحة لا تتخفى وراء شعارات المجتمع المدني وان كانت بعض شخصياته فاعلة في مؤسسات وتشكلات هذا المجتمع، وكأن مصير هذا التيار ان يدفع اثمان افكاره ومعتقداته ان كان في ظل الانظمة السابقة الشمولية في تبعيتها الى الشرق والغرب، وان كان بعد التغيير الظاهري الذي حدث في بنية انظمتها، في لبنان مع اتفاق الطائف 1989 وفي العراق بعد الاحتلال الاميركي عام 2003، الا انها ليس في امكانها ادعاء مصادرة هذا الحراك على الرغم من شموليتها ايضا، واكتفت بان تكون في عباب هذا الحراك. 

الا ان في هذا الحراك محطات واضحة ايضا، لا علاقة لها بالتيار اليساري والعلماني، تضم القوى المتضررة من التغيير الذي حصل في بنية النظام السياسي، ان كان في لبنان او العراق، وهي في لبنان تعتبر الحراك فرصة للانقضاض على ما هو قائم وهدمه على امل ان تستعيد ما سلف من امجاد كانت لها او ما تطمح له من لعب ادوار على حساب اخرين يتولون مقاليد "الامر" خصوصا بعد ان لمست بوضوح عجزها عن استعادة قاعدتها الشعبية السابقة او استحداث مثل هذه القاعدة بالاعتماد على استغلال اخطاء الذين تريد ازاحتهم، ثم العودة الى اعادة انتاج النظام نفسه على الالية السابقة التي قام عليها من طائفية ومحاصصة وشراكة في الفساد والافساد.  

النظير لهذه الشريحة اللبنانية على الساحة العراقية، تبدو اكثر استعدادا للدخول في دائرة العنف ونسف العملية السياسية واخراج الشارع والحركة الاعتراضية من دائرة السلمية الى دائرة المواجهة العسكرية والامنية، من اجل تحقيق هدف مازالت تعمل له منذ سقوط النظام السابق، وذلك من اجل العودة الى فرض نظام رئاسي بسلطات موسعة لرئيس الجمهورية تتجاوز ما لدى رئيس الوزراء في النظام الجديد وتقترب او تؤسس لصلاحات الرئيس ما قبل السقوط والاحتلال. وهي شريحة تنقسم الى جيلين، الاول ممن عاصر العهد السابق ومازال يحن لعودته ويعمل من اجل ذلك، والثاني من جيل لم يعرف النظام السابق وكان في مرحلة عمرية لا تسمح له بمعرفة وتجربة آليات حكم النظام القديم واساليبه وسياساته الاجتماعية والامنية، بحيث يمكن اعتباره جيل ما بعد الاحتلال، وهو يشكل  العنصر الابرز والاكبر في هذا الحراك في كل المحافظات خاصة في المحافظات الجنوبية ويشكل الوقود الاساس للمظاهرات والمواجهات رافعين في بعض الاحيان شعارات مستفزة للحكومة وقوى الامر الواقع. 

ان اخطر ما يواجهه الحراكان العراقي واللبناني، ذلك الفريق الذي يقف في ظل، مترددا بين اعلان مشاركته في الحراك وبين مساعيه لاثبات براءته من دعمه وتحريكه او توجيهه. 

المنطق الذي يحكم خطاب هذين الفريقين، انهما اعلنا عدم تدخلهما في الحراك في بلديهما، وانهما تركا الحرية لمحازبيهما في اتخاذ قرار المشاركة او عدمها، شرط ان لا تكون تحت شعار الحزب او الجماعة الذي ينتمون له حرصا منها على سلمية هذا الحراك وبعده عن الاستقطاب السياسي، في حين ان كلا منهما دفع بعناصره للمشاركة الواسعة في المظاهرات من دون تبنيها، بانتظار اللحظة المفصلية والمناسبة للاعلان عن دوره وحضوره من اجل قطف ثمار الحراك وتوجيهه للوجهة التي تخدم مصالحه.خصوصا وانه يملك القدرة التنظيمية والشعبية الاوسع بين جميع القوى المشاركة في الحراك وقادر في اعتقاده على السيطرة عليه وتوظيفه لصالحه في الوقت المناسب. 

خطوات تكاد تكون متشابهة اتخذها كلا الفريقين، فالفريق اللبناني بدأ بالانسحاب من العمل الحكومي على امل ان تدفع هذه الخطوة قوى اخرى لتبني قرار مماثل، الا ان الثقة المفرطة بصوابية قراره لم تسمح له بقراءة خصوصيات وآلية الاخرين في اتخاذ مثل هذه القرارات المصيرية والاثار المترتبة على ذلك، اما الفريق العراقي فقد ذهب الى خيار الانسحاب من العمل البرلماني، انطلاقا من محاولة تقسيم الادوار بين توجيه رسائل ايجابية لساحات الاعتراض والتمسك بحصته في الحكومة وما يعنيه ذلك من الحفاظ على المحاصصة. لكن الخطوات التي اعتمدها كلا الفريقين، ان كان على مستوى مشاركة محازبيهم في الحراك او على مستوى القرارات السياسية يبدو انها لم تفلح في اقناع الشارع بحياديتهما وعدم وجود اهداف لاستثمار الحراك لتعزيز مصالحهما، وهي مخاوف ليست مستبعدة خصوصا وان الطرفين لم يستطيعا على الرغم من مشاركتهما الواسعة في الحراك ان يبعدا عن انفسهما سهام الاتهام، ولعل الخوف من ان تنقلب الامور عليهما في حال استطاعت السلطتان اللبنانية والعراقية من استيعاب الحراك وتفكيكه او في حال نجح الحراك بتحقيق اهدافه، ان تكون الطريق بين "معراب" في اعلى جبل لبنان وبين "الحنانة" في كوفة النجف مفتوحة على اثمان لم تكن في حسابهما.  

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024