في قابلية السوريين للاحتلال

عمر قدور

الثلاثاء 2020/01/14
صار مألوفاً مشهد بشار الأسد الذليل أمام بوتين، ومعه ترتفع عن حق أصوات بعض المعارضين لتسخر من السيادة الوطنية التي يتشدق بها أنصاره. وصار من مألوف الحالة السورية أن ترتفع أصوات الأسديين بالحديث عن السيادة مع كل تصعيد عسكري جديد إزاء المناطق الخاضعة للنفوذ التركي، وأن تختفي أصواتهم أيضاً مع كل تفاهم روسي-تركي على التهدئة. الاعتراف بإدارة موسكو معارك قوات الأسد، إذا أتى، يأتي مقروناً بالإشارة إليها كحليف، مع إدراك الجميع أن علاقة التحالف مختلفة جداً عن علاقة التبعية. ذلك أيضاً يصحّ على مجمل الفصائل الخاضعة للنفوذ التركي، والتي لا تمتلك قرارها الخاص بالقتال أو عدم القتال، ولا تمتلك خطوط الإمداد أو العتاد الضروريين ليُبنى عليهما قرار مستقل.

لقد اعتدنا على مقولة إفلات السوريين قرارهم المستقل لصالح قوى الخارج المتنفذة في الشأن السوري، وأخطر ما في الاعتياد التسليم بأن هذه الوضعية غير قابلة للتغيير، ولا أمل من محاولة التفكير في تغييرها. انصياع السوريين للاحتلال، كلٌّ في موقعه الذي يفرض عليه قوة خارجية ما، أمر قد يثير الاستغراب، ما يُفهم معطوفاً على عقود من الانصياع للاستبداد الأسدي، ثم الفشل في إسقاطه. المقاربة التي نفتقد الاتفاق عليها هي أن الاستبداد، كسلطة إكراه لإرادات الشعب، هو بمثابة احتلال داخلي لا يستجلب نظيره الخارجي بفعل ضعفه فحسب، وإنما يستدعيه أيضاً بفعل القرابة اللصيقة بينهما.

لقد بدأت بعد التدخل العسكري الروسي تلك المقارنة التي تمنحه أرجحية إزاء نظيره الإيراني فأنصار الأسد بحسب غالبية ما يُشاع يفضّلون الاحتلال الروسي على نظيره الإيراني، هذا هو فحوى المقارنة. الإيرانيون يعتمدون على الميليشيات بينما تفضّل موسكو اعتماد الجيوش النظامية؛ هذا وجه أخر لا يتوانى، ولو مواربة، عن إبراز الجانب "الحميد" من الاحتلال الروسي مقارنة بنظيره الروسي.

هناك في أماكن سيطرة الأسد من يفضّلون إمساك موسكو مباشرة بمفاصل السلطة حتى على إمساك الأسد بها، وهناك في مناطق سيطرة الفصائل التابعة لأنقرة من يتمنون إمساك الأخيرة بالسلطة بدل وكلائها، وهناك أيضاً من تمنوا ويتمنون سيطرة أمريكية مباشرة بدل الاعتماد على ميليشيات قسد. اشتهاء الاحتلال، بدل تسلط أدواته المحلية، هو جانب آخر يجدر أخذه في الحسبان، فالسوري يملك من المبررات والدوافع ما يجعله عديم الثقة تماماً بسلطات الأمر الواقع المحلية، ويفضّل عليها سلطات أمر واقع خارجية.

نعلم أيضاً أن الاتجاه السائد، لدى الموالين والمعارضين وما بينهما، هو انتظار تفاهمات مختلف قوات الاحتلال على تقاسم النفوذ في ما بينها، أو على تسوية تلحظ في الدرجة الأولى مصالح تلك القوى. الاستقالة من الحديث عن أي قرار سوري مستقل مفهومة بدورها على خلفية التحطيم الذي تعرضت له إرادة التغيير أولاً، ثم التحطيم الذي تعرضت له إرادات عموم السوريين. إقامة التفاضل بين قوى الاحتلال واختيار كل طرف ما يناسبه منها يعكسان أبلغ ما يمكن أن يصله شعب من فقدان الثقة بكافة تمثيلاته المحلية المفترضة. لو أخذنا تجربة الحرب الأهلية اللبنانية مثالاً، لن نجد ذلك الانعدام المطلق للثقة، على رغم من بروز أمراء حرب، وعلى الرغم من ارتهان قادة الحرب لأجندات خارجية متضاربة، مع ضرورة الانتباه إلى عمق الانقسام اللبناني زمنياً قياساً إلى نظيره السوري.

ليس الاستبداد "بوصفه احتلالاً داخلياً" وحده ما يمنح شقيقه الخارجي مشروعية، ويمهد السبيل أمامه. ثمة أيضاً الحرب الأهلية التي تجعل لكل طرف فيها مصالحه وتوجهاته الخارجية المغايرة لخصومه، وقد رأينا لزمن طويل هذا التضارب في التوجهات الخارجية لدى مختلف القوى والطوائف اللبنانية، بحيث يصعب اتفاق الداخل اللبناني من دون اتفاق القوى الإقليمية والدولية الراعية لأفرقائه. 

عشية انطلاق الثورة، نستطيع الزعم بأن نسبة غالبة من السوريين لم يكن لديها خلاف جوهري مع السياسة الخارجية لسلطة الأسد، والخلاف برز أولاً مع تدخل حزب الله وإيران ضد الثورة، وصار استدعاء تحالفات خارجية من قبل المعارضة بمثابة ضرورة للمواجهة، بخاصة مع غياب الحماية الأممية ممثلة بالأمم المتحدة. بتوالي الزمن والأحداث، سيكون لهذا الافتراق شأن آخر، وسينعكس بمراجعة تلك النسبة لمواقفها السابقة من السياسة الخارجية للأسد، وأيضاً بمراجعة ما كان يُعدّ جزءاً من وجدانها. هكذا مثلاً تراجع العداء التقليدي السابق للغرب بين المعارضين مع صعود النزوع الليبرالي على حساب تجارب القدماء منهم التي غلب عليها طابع اليسار، ورغم كل مآخذهم على ما يعتبرونه تخاذلاً للغرب إزاء الثورة. الرؤية السابقة للصراع مع إسرائيل تغيرت، لا فقط بسبب استثمار المحور الإيراني فيها، ولا فقط بسبب المواقف السلبية للقيادات الفلسطينية من الثورة السورية، إنما أيضاً بسبب تقدم قضية الحرية التي كانت مغيَّبة لصالح مزاعم التحرر الوطني والتحرير.

إن تقبّل فكرة الاحتلالات لا ينم فحسب عن فقدان الثقة بالنفس والآخر، بل ينم أيضاً عن الانهيار الداخلي للصراع، فالمسألة لم تعد صراعاً سورياً هيمن عليه صراع خارجي. الصراع السوري نفسه أصبح مركّباً، وبات من ماضيه ذلك الانقسام الأول بين موالاة وثورة. الانقسام تفاقم خلال سنوات، ليصبح له مستوياته الداخلية والخارجية، والتحالفات المبنية على الانقسام غير مؤقتة أو عابرة. على الأقل، لن تكون كذلك طالما أن وجود رواية سورية مشتركة لما حدث أمر شبه مستحيل.

صور الإذلال الذي يقبل به بشار مقابل الإذلال الذي يقبل به معارضون، وألا يخدش هذا الإذلال المزدوج حياء المعنيين به خلف هؤلاء الأشخاص وألا تظهر قوى ترفضه بقوة، أمر ينبغي التوقف عنده لأنه سيؤسس لشبكات القوة وعلاقات المصالح المستقبلية ضمن المستقبل السوري المنظور. قد يُستبدل بشار ببشار آخر مطواع على شاكلته أو أكثر، وقد تُستبدل وجوه المعارضة بوجوه أخرى تزيدها تهافتاً، ولا يُستبعد أن تقوم التسوية الخارجية على ذلك الخليط من البدلاء بالاستناد إلى تقبّل عام لفكرة التبعية. هي إهانة للنفس أن يُنظر إلى بشار كممثل للسيادة المنتهكة، وحتى أن يُنظر إلى بعض المعارضين كممثلين لقرار وطني يُنتهك، فالأصل أن تكون السيادة لأولئك الذين يسخرون ممن لا يستحق تمثيلها على الجانبين.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024