ضريبة على المحتوى: تقنين الافتراضي

شادي لويس

الأربعاء 2021/09/29

الضريبة هي جوهر كل صراع سياسي، بحسب الاقتصادي الفرنسي، توماس بيكيتي، صاحب كتاب "رأس المال في القرن الحادي والعشرين". ولعل كارل ماركس نفسه كان سيتفق في الكثير مع تلك العبارة، وإن كان نقاده سيذهبون إلى أن تنظيراته الشحيحة حول الضرائب تشبه "الصندوق الفارغ".

فغير المانيفستو الذي دعا إلى ضرائب تصاعدية، تهدف في النهاية إلى إلغاء الدولة، فإن المرات التي جاء فيها ماركس على ذِكر الضرائب، كانت متناثرة ومختلفة في زوايا تناولها بحسب سياقاتها. فمرة يحرض، في سياق التمرد على الدولة، على الامتناع عن دفعها "كواجب أساسي على كل مواطن". وفي نص آخر، يصف، بشكل أكثر تحديداً، دور الضرائب في تمويل بيروقراطية الدولة وماكينتها القمعية. ومرة أخرى، يرفض منطق الضريبة على الأرض، كونه إصلاحياً، أي يحفظ البنية الطبقية للمجتمع كما هي. وفي سياق التعليق على السياسات الحزبية، يصف التصويت ضد اعتماد الميزانية، على أنه فعل احتجاجي يؤدي إلى تعليق مؤقت لدفع الضريبة. وفي خضم هذا كله، يصعب بناء نظرية متماسكة، لكنه بشكل أو بآخر يدفعنا للاقتناع بأن الضريبة لها وجوه كثيرة ومتناقضة، وهي لا تمثل فقط أحد أهم مرتكزات السياسية، بل وأيضاً الفلسفة التي تحكمها، أي معنى الحق الطبيعي، والملكية والعمل وعلاقة الدولة بالفرد، والفرد بالجماعة والعقد الاجتماعي، بين أشياء أخرى كثيرة.

لا عجب أن يستدعي إعلان الحكومة المصرية، فرض ضريبة على دخول صنّاع المحتوى إلى الإنترنت، جدلاً واسعاً، وأن يتفرع هذا الجدل ليشمل نقاشات حول أنماط إنفاق ميزانية الدولة، وبناء السجون الجديدة، وإعفاء مؤسسات الجيش من الرسوم، والنظام الضريبي غير العادل في مصر، والمفاضلة بين الضرائب المباشرة وغير المباشرة، وأيضاً عقد المقارنات بين النظام المصري ومثيله في الإمارات على سبيل المثال، ليذكرنا بأن الضريبة في اقتصاد معولم، كما هي شأن وطني، فهي أيضاً مسألة عابرة للحدود تحكمها شبكة معقدة من العلاقات والمنافسات على مستوى دولي.

في مسألة الضرائب، لطالما وقف على طرفي النقيض، مَن يرى في "الملكية الخاصية سرقة" يمكن للضرائب أن تعادل بعضاً من جورها الاجتماعي والتكفير عنها عبر تمويل دولة للرفاه ومؤسسات رعائية. وهناك، في الجانب الآخر، مَن يرى في "الضريبة سرقة"، يجب تقييدها إلى حدها الأدنى، بهدف تمويل حكومة "صغيرة" لحماية الملكية الخاصة، أما الرفاه فشأن فردي لا دور للدولة فيه. وفي الجدل المصري الحالي، علت أصوات تميل إلى المنطق الثاني، بفرديته الشديدة، مستنكرة فرض الضريبة على المحتوى الرقمي. وكانت تلك الأصوات هي الأعلى، ومن السهل وصمها بأنانية الطبقة الوسطى وانكفائها على ذاتها، وهي التهم المكررة ضد منتسبيها، وبالأخص ضد شرائحها الأقرب إلى السوق المعولم وثقافته ونمط الحياة المرتبط به.

إلا أن تلك الأصوات، رغم ارتفاعها، أو بالأحرى التركيز عليها، لم تكن الوحيدة، ولم تكن دوافعها متجانسة في كل الحالات. فصناعة المحتوى، على ما يحمله ذلك التوصيف من معان فضفاضة جداً، ليست مجرد مجال آخر للنشاط الاقتصادي، بل ساحة لتحقق أحلام ريادة الأعمال والعمل الحر، وما يتضمنه ذلك من وعود بتحليق عال خارج المسارات الرسمية وبعيداً من حراس بواباتها. في السياق المصري، يعني هذا أيضاً الإفلات من العبء البيروقراطي لماكينة الدولة وعيوبها، حيث تتم المعاملات المالية بشكل مباشر مع المنصات الرقمية ومؤسساتها المعولمة. ما يدركه صنّاع المحتوى المستاؤون، هو أن فرض ضريبة على عملهم، لا يعني فقط اقتطاع نسبة من دخولهم، بل يعني أيضاً تقنين نشاطهم محلياً، وما يستتبعه هذا من فقدانهم لعنصر التحرر في "العمل الحر"، ومعه وضعهم المعولم الحصري. ففي السابق، أي قبل فرض الضريبة، كان وضعهم مقنناً على مستوى معولم، فيما كان نشاطهم الاقتصادي محلياً غير مسجل. هكذا، تجبرهم الضريبة على التورط في شبكة علاقات مع البيروقراطية المحلية، بترهلها وفسادها وبطشها. فالسجل الضريبي يعني الأختام، وتقديرات جزافية وقضايا ورشاوى، وكذا يعنى الانكشاف أمام عين الدولة المحملقة.

ما أثار نقمة صناع المحتوى الرقميين، أكثر من أي شيء آخر، هو ضمهم عنوة إلى السوق الرسمية، في حين تنجح غالبية الأعمال الخاصة والحرة في السوق "الواقعي" في التهرب من جباية الدولة أو تفادي التسجيل الرسمي بالكامل. وعد التحرر الذي جاء به العالم الافتراضي، سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي، يثبت هشاشته مرة أخرى. تعلن الحكومة البدء في مخاطبة المنصات الرقمية لجمع بيانات عن المعاملات المالية لصناع المحتوى. وإن كان لا يمكن الجزم بنتيجة تلك المخاطبات، لكنه يظل جلياً كيف يمكن للسيطرة على الفضاء الرقمي وأسواقه أن تكون أكثر سهولة وإحكاماً من السيطرة على العالم خارجها، بأسواقه الرسمية وغير الرسمية.

أتاح الجدل حول الضريبة على المحتوى، فرصة لنقاشات حول السياسة بمعناها الواسع، وطرح شعارات تربطها بالاقتصادي من عينة "لا ضريبة بلا تمثيل"، بل وتقديم تصورات مبسطة لنظم ضريبية أكثر عدالة، تربط الاقتصادي بالاجتماعي، ليذكرنا هذا مرة أخرى كيف يمكن للضريبة أن تكون تكثيفاً لكل ما هو سياسي.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024