فيروز.. خارج الاستعراض

ساطع نور الدين

الأحد 2020/09/06
الرموز والدلالات التي أثارها اللقاء الخاص بين الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون وبين الفنانة فيروز، ما زالت مثار جدل يكاد يتقدم على ذلك الجدل المحتدم حول المبادرة الفرنسية نفسها، التي تبدو فرص تعثرها أكثر من فرص تجسدها في حلول ومعالجات للازمة اللبنانية.. والتي لا يمكن ان يكون ذلك اللقاء الودي جزءاً منها.

يصعب القول ان ماكرون البالغ من العمر 42 عاماً ينتمي الى العالم الذي غنته فيروز، ولا حتى الى الثقافة التي ترجمتها. والارجح أنه لم يسمع بالفنانة القديرة التي تجاوزت الثمانين، او على الاقل لم يسمع لها، سوى عنوان أغنية "بحبك يا لبنان.." الذي ردده أكثر من مرة في زيارتيه الاخيرتين الى بيروت. والأغلب أنه لم يحضر حتى أيا من حفلاتها في باريس، بما فيها الحفلة الاخيرة في قاعة بيرسي الشهيرة في العام 1988، عندما كان طفلاً في الحادية عشرة من العمر.

 وعليه يصبح من المستحيل ان يصنف اللقاء الذي جمع الرئيس الفرنسي الشاب مع الفنانة المتقاعدة كمحاولة لإستعادة لبنان القديم، أو بعض صوره الجميلة فعلاً،  في الوقت الذي يزعم ماكرون أنه يسعى الى تجاوز ذلك اللبنان المتواري والبحث عن سبل وفرص لتغييره وتطويره، بما يتلاءم مع روح الشابات والشبان اللبنانيين وتطلعاتهم الى المستقبل.

اللقاء كان رحلة نحو الماضي اللبناني الجميل، والمثير للشك، بوصفه إختراعاً متوهماً، عن بلد مستقل، مستقر، موحد، وعن ثقافة وفن نقلهما الرحابنة والسيدة فيروز من مدن الساحل التي لم تكن تبخل بمثقفيها وفنانيها وموسيقييها الكبار، الى قرى ومزارع الجبل التي لم تكن تنتج سوى الاساطير والخرافات والعصبيات والنزاعات المحلية، التي تحولت في أواسط القرن الماضي الى خطاب إيديولوجي بنيت عليه فكرة وطنية لبنانية لها أبطالها وبطولاتها.. التي لم تصمد طويلا عندما تقدم المؤرخ الكبير كمال الصليبي بأدلته الدامغة على زيف وبطلان المرويات المؤسِسة لتلك الفكرة.

المؤكد ان ماكرون لم يكن يسعى الى إعادة إنتاج ذلك اللبنان، ولا طبعا الى احياء الحنين اليه، لدى الجمهور اللبناني ولا طبعا الفرنسي. فهو ماضٍ مضى، ولن يعود. فالرئيس الفرنسي نفسه لا يمت بصلة الى تلك الحقبة الفرنسية من التاريخ المشترك بين البلدين، وفيروز ليست الفنانة الوحيدة، ولا الاخيرة التي تمثل ذلك اللبنان، الذي لا يزال حتى اليوم يتردد في سيل جارف من الاغنيات الوطنية والثورية السخيفة والمؤذية التي يفجرها فنانون وفنانات على مسامع اللبنانيين، كأنها صواريخ او قذائف مدفعية أو عبوات ناسفة تزرع في كل مكان..مصحوبة بدبكات خطرة على السلامة العامة والبيئة.  

 طرحت أسئلة (ونكات) كثيرة حول مغزى ذلك اللقاء الذي جاء من خارج السياق، حتى بالنظر اليه كبادرة تكريم متجددة لفنانة لبنانية عظيمة، في صوتها الرخيم الذي لا مثيل له في غزلياته وفي رثائياته، لا في وطنياته وثورياته طبعا.. أو حتى بالنظر إليه كنداء وجهه ماكرون وردده بعض الجمهور اللبناني الى فيروز، لكي تخرج من عزلتها، وهي عزلة تقاعد تستحق الاحترام والتقدير لا التحدي او التطاول.. وتكسر صمتها، الرصين فعلاً، وتحدث الناس عن مواقفها مثلا من الرئيس القوي والرئيس المكلف والرئيس الذي لا يورث، وعن مشاعرها من إرتفاع أسعار البطاطا والباذنجان والسلطة على مائدتها.. أو من طريقة توفير الكهرباء في غرف منزلها المتواضع.  

كان لقاء من التاريخ المثير للجدل، لا من أجل إعادة كتابته، ولا طبعا من أجل إعادة إحيائه. هو جزء من عمل إستعراضي ضخم، نظمه الرئيس ماكرون، ويخشى الا يبقى منه سوى تلك الصور اللطيفة التي جمعته مع السيدة فيروز.. والتي أراد ان تضاف الى سجل صور مماثلة محفوظة في قصر الاليزيه، لرؤساء فرنسيين كبار سبقوه الى الاهتمام بلبنان، من دون أوهام. وقد نسيهم الفرنسيون قبل ان ينساهم اللبنانيون..

فيروز في البال دائما، كأغنية حب، تسمو على أي إستعراض.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024