لودريان في الأزهر: البحث عن الإسلام

شادي لويس

الأربعاء 2020/11/11

يصل وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، إلى القاهرة، محملاً بالرسائل: "نحترم الإسلام والمسلمين"، عبارات دبلوماسية لتلطيف الأجواء، يتبعها بالمزيد من الثناء: "الدين الإسلامي قدم إسهامات قيمة لتاريخ البشرية".. "المسلمون في فرنسا جزء لا يتجزأ من المجتمع الفرنسي". ينفى الوزير شبهة استهداف مسلمي الداخل، وفي الوقت نفسه يؤكد ولاية الدولة الفرنسية حصراً عليهم. أبعد من هذا، يتمسك لودريان بموقف حكومته المعلن، لا يقدم تنازلاً أو اعتذاراً من أي نوع، ولا يفترض غير ذلك بالطبع. ففرنسا، بحسبه، تناضل على جبهتين، واحدة لضمان حرية العقيدة وممارسة الأديان، ومن ضمنها الإسلام. والثانية لضمان حرية التعبير، وستواصل نضالها: "حملة المقاطعة خطيرة...حملة المقاطعة لا تليق بمطلقيها"، المطلب الفرنسي واحد من البداية، "أوقفوا المقاطعة فوراً".

يستقبل شيخ الأزهر لودريان في مقر المشيخة، "بشروط"، كما صرح للإعلام قبلها. يلتقط الشيخ أحمد الطيب لعبة توزيع الأدوار: "الأزهر يمثل صوت ما يقرب من مليارَي مسلم". يتقمض شيخ الأزهر دوراً متفقاً عليه ضمناً، مهمة تمثيل الإسلام والناطق باسم المسلمين، وتعلق جريدة "الأخبار" المصرية في اليوم التالي: "2 مليار مسلم يتحدثون من الأزهر". لكن الطيب الذي ينبري لتوبيخ الوزير الفرنسي علناً، يقر بهشاشة ادعاء مؤسسته تمثيل جموع المسلمين، أو قصوره في أفضل تقدير: "الإرهابيون لا يمثلوننا، ولسنا مسؤولين عن أفعالهم، وحين نقول ذلك لا نقوله اعتذاراً". يتبرأ الشيخ من الإرهاب ويرفض الاعتذار عنه، وكما أن الإرهابيين لا يمثلون الإسلام، فإن الناطق باسم المسلمين لا ولاية له عليهم، ولا تتحمل مشيخته مسؤولية نيابة عنهم ولا تجاه أفعالهم. تمثيل بلا مسؤولية. تمثيل من دون شرط التمثيل الأكثر جوهرية.

الأزهر، المؤسسة العريقة التي لم تعد سوى جهاز بيروقراطي مخضع لإرادة النظام السياسي، لا يمثل أحداً في الحقيقة. يعرف الشيخ الطيب هذا، ويدركه أيضاً ضيفه الفرنسي. لكن فرنسا، التي تواجه أزمة الإسلام، أو بالأحرى أزمتها مع الإسلام، وجدت نفسها مضطرة إلى طرق جميع الأبواب، للبحث عمن يمكن الحديث معه نيابةً عن الإسلام. فبعد أسابيع قليلة من الاستقبال الأسطوري للرئيس ماكرون في شوارع بيروت، أضحت باريس هدفاً لدعوات حملة واسعة للمقاطعة، من الشعوب العربية الإسلامية، وتجد مصالحها ونفوذها المعنوي عرضة لتهديدات جدية حول العالم.

حاجة باريس إلى التوجه بالحديث إلي المسلمين، قابلته معضلة التمثيل. يغرد الرئيس ماكرون بالعربية أولاً، ويتجه لاحقاً إلى قناة "الجزيرة". الاختيار لا يبدو اعتباطياً، بل رسالة إلى "فئة" من المسلمين، واعتراف بحق ما لتمثيلهم أو بقناة للتواصل معهم من خلالها، والفرنسيون يميزون بذكاء بين الدوحة وأنقرة. يزور لودريان القاهرة بحثاً عن ممثل آخر للإسلام، ومن هناك يشن هجومه على ممثلين آخرين أو ساعين للتمثيل، ويسميهم: باكستان وتركيا وإيران.

بسقوط الدولة العثمانية، أضحى سؤال التمثيل محل استدعاء دائم. المؤسسة الروحية التي تفتقد في معظمها لنظام كهنوتي، تنازعتها أنظمة السياسة الصاعدة بعد الاستعمار، سعياً لفرض هيمنتها على حق التمثيل، وفي مسألة الجهاد تحديداً، إعلان الحرب المقدسة ووقفها. استُدعيت تلك السلطة في أفعانستان وإندونيسيا، وغيرها من الأماكن، وبصور عديدة وتحت أسماء مختلفة، لوقف المد الشيوعي أثناء الحرب الباردة. فجرَّ النجاح الخاطف والأسطوري للثورة الإيرانية، معركة طويلة حول حق التمثيل، حرب المراكز الإسلامية حول العالم، "المد الوهابي"، وتوسع الهلال الشيعي، صعود جماعة الإخوان بعد الربيع العربي، وانقلابات الثورات المضادة، كانت تلك جميعها وجوهاً من تلك المعركة أو من نتائجها.

اليوم، يبدو المشهد أكثر تشرذماً. تركيا، العائدة إلى إسلامياتها، تطالب بميراث تمثيل أمبراطوري تراه مستَحَقاً. السعودية، وحلفاؤها الخليجيون، ينقلبون على أيديولوجيا الصحوة إلى نسخة "معتدلة" من الإسلام تتحالف مع الصهيونية، نسخة يمكن تسويقها للعالم كمبرر لاكتساب حق التمثيل. إسلام آباد، القوة الإسلامية النووية الوحيدة، تفشل السعودية في استمالتها إلى "حلف إسلامي" عسكري، وتكتفي هي بلعب دور ممثل الإسلام في شرق آسيا. تفقد إيران أي نفوذ كانت قد اكتسبته خارج حدود حلفها الطائفي، لكن تمثيلها للإسلام الشيعي ما زال واقعاً معترفاً به كما كان منذ عقود. تأتي زيارة الوزير الفرنسي الأخيرة، وتصريحات شيخ الأزهر خلالها، كعلامة أخرى على هذا كله، على المحاولات المضنية للاستئثار بالحق في التمثيل وقصوره عن تلك الحيرة المبهمة التي تصيب الجميع حين يتم الحديث عن المسلمين أو حين يظهرون فجأة على سطح الحدث: من هم؟ ومن يتحدث باسمهم؟

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024