تفكيك مفهوم القومية

خلدون النبواني

الخميس 2015/09/03
إعلان وفاة "باراديغم" القومية كأحد الأركان الأساسية للسياسة العربية التي أقامت على أساسها مشروعها الذي لم يتحقق يوماً في بناء "الدولة العربية الحديثة"، يدفع لإعادة تناول مفهوم القوميةّ وتفكيكه. لا بد إذن -دون الحاجة أو الرغبة بشيطنة هذا المفهوم الذي كان له ما يبرّره في فترة سابقة- من كشف القناع عن الدور المُعطِّل اليوم لهذا المفهوم الذي تقادم، وأثر سلبياً على نشوء الاستبداد العربي الذي يجيد لعبة قلب المصطلحات، بحيث يُطرح شعاراً ويُمارس نقيضه فعلياً. "مفهوم" القومية كان أداة في يد السُّلطات القُطرية لمنع تحقيق الدولة القومية.

كما أن سبباً أخر، يدفع إلى تفكيك هذا المُصطلح الآن وهنا، وهو استعار أواره من جديد وعودة شبحه بكل رعبه ليخيّم على الاقتتال في الساحة التي استعرت فيها الهويات القوميّة القاتلة: أكراد في مقابل عرب على سبيل المثال.

لا شك أن مفهوم القوميّة قد لعب دوراً أساسيّاً في بلدان الغرب الحديث في تأسيس الدولة-الأمة، مُحدّداً بذلك حدود ومقومات تكون القوميات التي ظهرت مع الحداثة الأوروبية. ولكن يجب الاعتراف أيضاً أن فكرة القومية كانت من أخطر المفاهيم الحديثة وأكثرها قابلية للانحراف لما تتضمنه وتنطوي عليه من عصبية وعرقية هوياتيّة تقود إلى حروب خارجية وإلى اضطهاد وإقصاء للأقليات التي لا ينطبق عليها مقومات القومية التي يتم تقديسها في بلدٍ ما. تفترض القوميّة هويّة ما يتحدد من خلالها شعب معين في مقابل غيره من الشعوب والأُمم الأُخرى والتأكيد على عظمة الهويّة القومية المزعومة لذلك الشعب وأفضليتها على غيرها من القوميات الأخرى التي تُمثِّل خطراً مُزمناً مُباشراً أو غير مباشر. هكذا انتهى مفهوم القومية بكل تضميناته المباشرة وغير المباشرة إلى التعصب إلى الهويّة القومية إلى درجة العنصرية racism كما شرح ذلك بدقة المؤرخ الماركسي البريطاني إريك هوبسباوم، الذي درس طبيعة الترابط بين القومية والعنصريّة وافترض أن العلاقة بينهما عضوية واضحة. وهذا ما عرفته بلدان الغرب الأوروبي في النصف الأول من القرن العشرين. فلأسباب قوميّة، قبل أن تكون أي شيء آخر، استعر الصراع الفرنسي/الألماني في الحرب العالمية اللأولى على سبيل المثال لا الحصر. ونحن نعرف جيداً أن فكرة القومية كانت المنطلق الأساسيّ لظهور الفاشيات الأوروبية وبخاصة النازية الهتلرية في ألمانيا التي غذّت النزعة القوميّة معتبرةً أن قوميتها هي الأرقى والأقوى والأجدر بالحياة "ألمانيا فوق الجميع" الخ. ويُظهر لنا التاريخ بشكلٍ واضح أن الفاشيات على اختلافها هي أكثر من تغنى بفكرة القوميّة وألهها وهي حين وصلت للعرب كانت بكامل حلتها الأيدولوجية الفاشية.

وبالإضافة إلى مشكلة العنصرية في العداء لقوميات الأُمم الأُخرى التي غالباً ما انتهت بحروب في محاولة القضاء على الهوية القومية للأخر، ظهرت مشكلة التمييز بين شعوب البلد الواحد الذين تم اقحامهم جميعاً في هوية قوميّة لا تنطبق على الجميع تاريخياً ولا وفق الحق الفردي في الاختيار والانتماء. في كل مرّة كان هناك هويّة قومية منتصرة تمارس العنصرية والتمييز على أبناء البلد الواحد، ويشهد التاريخ للآن بأن هذه الصراعات قد مارست قمعاً وإقصاءً وتهميشاً للأقليات القومية كما حصل للأكراد مثلاً في سوريا والعراق.

ولو عدنا لتقصي انحرافات وكوارث التلاعب بمفهوم القومية على الساحة العربيّة لوجدنا أن أكثر الأنظمة الفاشيّةً عربياً قامت على أساس مفهوم القومية العربية كما حصل في "ليبيا القذافي" وفي "حزب البعث" بنسختيه "العراقية الصدّامية" و"السوريّة الأسديّة" حيث قامت هذه الأنظمة بالأصل على مفهوم مُتصدّع منذ التكوين، فتأسست عليه نظريّاً ومارست عنصريتها من خلاله. المقصود هنا بالخلل البنيوي للنسخة العربية لمفهوم القومية هو المثالية القومية والطوباوية الحالمة أو الماضوية الميتافيزيقية الماهوية الثابتة التي وبسبب مثاليتها ظلت مغتربة بشكلٍ ما عن الواقع وغير قادرة على إيجاد معادلاتها السياسيّة فيه. فالأمة مثلاً لدى أحد أهم منظريّ القومية العربية زكي الأرسوزي، هي ماهية سابقة على الوجود العربي، وهي الإطار المكوِّن له والمُقدَّم عليه زمانياً وأنطولوجياً. هكذا تختلط المفاهيم المؤسسة لدى الأرسوزي بمثاليات جوهرية متعاليّة متأثرة بدراسته لجمهورية أفلاطون. على نفس الموال تتناسل المفاهيم المثالية الميتافيزيقيّة في تبني مشروع الدولة القوميّة لـ"حزب البعث" كاللغة والروح القوميّة. ففي حين يرى ميشيل عفلق أن القوميّة هي تجسيد للروح العربيّة، يبلوِّر قسطنطين زريق هذه المسألة في كتابه الوعي القومي (1938) حيث يرى أن  القومية في جوهرها ليست سوى حركة روحيّة ترمي إلى بعث قوى الأمة الداخلية. وفق منظري فكر البعث إذاً هناك جواهر روحية ثابتة تقوم على أساسها القومية العربية قديمة قدم العالم خالقة له ومتقدمة عليه أو كما يرى ميشيل عفلق القومية العربية بوصفها جوهراً معطى ميتافيزيقي يؤثِر بالأحداث دون أن يتأثر بها.

وقد كان هناك المزيد من "الآثار الجانبية" السلبيّة والمباشرة التطبيقيّة لمفهوم القومية العربية، ولشرح ذلك سنأخذ مثالاً الدولتان اللتان "اعتمدتا" حزب البعث بوصفه الحزب الوحيد القائد للدولة والمجتمع: العراق وسوريا. فقد تم اضطهاد القوميات غير العربية ورُفض الاعتراف بأدنى حقوقها بما في ذلك حق المواطنة. لحق ذلك بالأقليات الإثنية في سوريا مثل الأكراد والتركمان والشركس والسريان.

كان هذا الاضطهاد للأقليات الإثنية أحد أبرز الشروخ في مفهوم القومية العربية بنسختها البعثيّة المُتصلِّبة على الهوية العربية والتي أغلقت المجتمع فمنعت إمكانية التعدُّد القومي، فاتحةٍ النار على أقوام اللاعرب المتواجدين على نفس الأرض السوريّة التي أقصى فيها مفهوم القومية البعثيّة الإثنيات الأخرى من دائرة الاعتراف والحقوق. كان لا بد لهذا الإقصاء أن يولّد الحقد والرفض لسيطرة هيمنة القوميّة العربية والسُّلطات الممثلة لها؛ كما تجلى ذلك في العراق ما بعد صدام حسين وأثناء الثورة السوريّة ضد نظام بشار الأسد المستمرة للآن منذ حوالي خمس سنوات.

من مفارقات مفهوم القوميّة (كغيره من المصطلحات حين تدخل الدائرة السحرية للسياسة) هو طرحه شعاراً لتكريس نقيضه واقعاً، أي هنا وقوف مفهوم القوميّة بصيغته المُعطّلة والمُعطِّلة كحاجز وسد منيع أمام تحقيق الوحدة أو الدولة القومية وذلك عبر تكريس الدولة القُطرية التوريثيّة. كان حزب البعث بمقدماته النظرية يفترض رفض الدولة القُطرية كهدف وضرورة الانتقال منها نحو دولة قوميّة عربية تجمع شُتات الدول القُطرية في أمةٍ عربيةٍ واحدة. ولكن المفهوم شيء وتطبيقه شيء آخر. فبالإضافة إلى العيوب البنيوية التي ولدت مع مفهوم القومية في هذا الحزب إلا أن أفكاره قد تم مسخها وإعادة تفصيلها لتتناسب مع العسكر الذين وصلوا باسمه إلى السُّلطة بانقلابات عسكرية. في العراق وسوريا تم إعادة تفصيل الحزب على مقاس البوط العسكري وراحت مغانم السُّلطة تضيق مع الزمن من دائرة الموالين للجنرال المنتصر إلى "جماعته" الدينية التي خرج منها وينتمي إليها وصولاً إلى أفراد عائلته الذين تنازعوا فيما بينهم السُّلطة أيضاً. إعادة تفصيل الحزب على مقاس العسكر تجلى بشكل واضح في مصير منظريّ الحزب التراجيدي في كل من سوريا والعراق، فما تخيلوه كفكرة قد اصطدم بمصالح ضباط انقلابيين لا يريدون من الحزب سوى واجهة آيدولوجية لمصالحهم. هكذا ما لبثت أن تحولت السلطة في كل من سوريا حافظ الأسد وعراق صدَّام حسين إلى مزرعتين يحكمهما مجموعة من العسكريين الدكتاتوريين بأجهزتهم الأمنية والذين فرضوا على المجتمعين السوري والعراقي باسم البعث توجهاً عسكريّاً إكراهياً لا يقبل بأي شريك، ولا أن يتنازل عن امتيازاته لصالح تكوين قوميّ مطروح كشعار منتهية صلاحيته.

لكل هذا يبد أن هناك حاجة ماسّة لتفكيك مفهوم القومية وبخاصة بعد ارتفاع اللهجة الانفصالية المُطالبة لبعض القوميات غير العربية وبخاصة الأكراد الذين عانوا الأمرّين من التمييز والاضطهاد والتهميش من قبل الأنظمة العربية والتركيّة والإيرانيّة التي اتخذت من مفهوم القومية سيفاً مُسلطاً على من لا ينتمي إليها ويقع تحت حكمها. نتيجة المظلومية التاريخية التي عانى منها الأكراد يمكن لنا تفهم مطالبهم بالانفصال وتأسيس دولتهم الخاصة، ولكن لا بد من التنبيه هنا إلى أنهم على وشك أن يعيدوا مأساة تجربة القومية العربية وبشكل أكثر تطرفاً وتعصُّباً. فبالنهاية لن تكون دولة الكورد القومية سوى نسخة جديدة من الدولة القائمة على الهوية والمتعصبة لها بل والساعية للثأر التاريخي من القومية التي اضهدتها وهي القومية العربية مما يؤذن بحروب قومية قادمة عربية/كرديّة. فمفهوم القوميّة الذي يسعى الكورد لتأسيس دولتهم عليه ودخول التاريخ ككيان سياسيّ عبر بناء الدولة على أساس قوميّ هو بوابة الجحيم التي سارت عليه الفاشيات السياسيّة الحديثة وما بعد الحديثة. تصوروا أمة كرديّة فقط بلون واحد هو اللون الكرديّ؟ بصراحة الأمر يبعث على الأسى ويؤكد أن حروب الهويات ستستمر إلى آلاف السنين القادمة في منطقة الشرق الأوسط. أن تقوم دولة على لون واحد هو أمر يبعث على الإحباط حقّاً ويُذكِّر شئنا أم أبينا بكيان إسرائيل الذي قام على أساس عصبيّ آخر هو وحدة الدين. هنا دين وهناك قوم أي دولتين كل واحدة منهما بلون واحد متمركزتين على هويتهما ومصرتان على لونهما الوحيد الذي يُقصي ما عداه.

يمكن تفهم ردود فعل الكثيرين من الأكراد، التي ونتيجة الاضطهاد التاريخي المتواصل الذي يقف في وجه إنشاء دولتهم، صارت متصلبة متجذِّرة على الهوية أكثر كلما دار نقاش حول مشروع إقامة الدولة الكردية لأكراد العالم. لكن هذا التعصُّب لا يؤسس لدولة حديثة ولا لمجتمع تعددي تماماً كما لا يتجاوز خطأ القومية العربية التي لا تعترف بغيرها وإنما يؤدي ذلك إلى نشوء كيان سياسيّ متمترس على هويته ومقصي لغيره وينذر باستمرار حروب الهويات التي تسير على قدم وساق اليوم في سوريا والعراق ومنطقة الشرق الأوسط: سنّة/شيعة، عرب/أكراد، مسلمون/ يهود، أقليات/ أكثريات الخ.

ما البديل عن كل ذلك إذن؟لا شك إنها ليست إعادة ترميم مفهوم القومية العربية وإنما دفنه. ولكن هل يُعقل أن تقوم دولة حديثة دون أساس قوميّ أو مرجعية قومية؟ الجواب نعم، وهذا هو الحال واقعياً في أوروبا مثلاً التي أدر كت أن قومياتها متفرقة ومتفردة لن يمكنها من مواجهة التحديات السياسيّة الخارجيّة، ولكن وقبل ذلك الانفجارات المحتملة لمجتمعات مُختلطة الثقافات والمرجعيات القومية والدينية والثقافية فكان لا بد لها من إعادة تعريف دور الدولة والمجتمع فعملت على الخروج من زنزانة القومية إلى المجتمع التعددي plural soscity  أو المجتمع متعدد الثقافات Multicultural society عبر الاعتراف باختلاف الآخر وتوسيع مفهوم المواطنة وإعادة تعريفه والدخول في تحالفات إقليمية واقتصادية تسمح لها بالبقاء. هكذا عملت مجتمعات الحداثة الغربية ـ التي يفرُّ إليها العرب والمسلمين المٌضطَهدين في كل أنحاء الأرض ـ على التلوّن والتعدد والاعتراف بالاختلاف لإدراكها أن أي مجتمع يحترم حقوق الإنسان هو مجتمع تعدُّديّ إذا ما أردنا أن نحقق حلم كانط الشهير الذي يتجلى فيه سطح الكرة الأرضية كملكية متساوي لكل الناس. في أوروبا، ومع الضبط المعياري العقلاني لمفاهيم السياسة والقانون وتجديدها لم تعد المفاهيم مجرّد يوتوبيات خيالية وإنما أفكار وقد تجسدت سياسياً وأنشأت الدول والمجتمعات الحديثة. وهذا ما يجب أن يكون عليه الحال عربياً لنستطيع بناء لغة سياسية يمكن من خلالها إعادة بناء السياسة بشكلٍ مدنيّ وحضاريّ تحُّرريّ.

مفهوم القومية هو من اللغة الخشبية المتقادمة والتي صار لا بد من حرقه للتفكير ببدائل حيّة قابلة للحياة الكريمة وتتسع للجميع. والبديل المتاح لنا الآن هو المجتمع التعدديّ، وإلا فالصراعات والاضطهاد والقمع وحروب الهويّات.

إما أن نحيا معاً مختلفين وإما أن نموت بسيوف القومية والهويات المتعصبة والمتمركزة على ذاتها وحقيقتها.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024