سفارات عاطلة عن المؤامرة

عمر قدور

الثلاثاء 2019/11/19
كما نعلم هو تعبير لبناني ممانع يوصم عبره الخصم بالتبعية لسفارة أجنبية ما، يُفترض أنه يتلقى توجيهاتها، ويتماشى مع الخصوصية اللبنانية التي تتيح للنخب السياسية "ترف" التواصل مع الخارج. فيما تبقى من محور الممانعة، في الأصل لا يتجرأ أي مواطن أو مسؤول خارج مهمة رسمية على التواصل مع أي موظف في سفارة أجنبية، لذا تأخذ تهمة العمالة للغرب صياغات أخرى، مع اتفاقها جميعاً في تخوين الخصم واتهامه بالعمالة.

الغرب هو المقصود دائماً بالتآمر عبر خونة محليين، وهو ما نشهده من اتهامات اليوم يوصم بها متظاهرو إيران ولبنان والعراق. ليس في عقل المتحكمين في السلطة سوى هذا النوع من التخوين، لأن الخروج عنه يعني الإقرار بأحقية ما للشارع لا يريدون الإقرار بها على الإطلاق. هذا كله بات مكشوفاً ومفضوحاً، ومحل سخرية لا تحرج مستخدمي الأداة ذاتها طوال الوقت. ما تغير إلى حد كبير غياب المساعدة الغربية عن تقديم العون لتلك الأكذوبة، ولعل ذلك أكبر مصدر للعتب على الغرب من قبل أصحابها.

وفق التعبير ذاته، لدينا الآن سفارات عاطلة عن المؤامرة، سفارات لا يوجد فيها موظفون يتلقون تعليمات من حكومات بلدهم لدعم أي مطلب شعبي، وأقصى ما يفعله المختصون منهم هو تدبيج تقارير تقليدية عن الأوضاع "المضطربة". في المركز الغربي، الذي ينبغي أن يحتوي كبار المتآمرين، لدينا "نخب" تتحسس بشدة من "الاضطرابات"، وأكثر ما تخشاه هي الفوضى العارمة الخارجة عن السيطرة، أية سيطرة كانت. لا نغالي بالقول أن النخب الحاكمة في الغرب حالياً تكاد تقدّس مفهوم الاستقرار، في مجتمعاتها وخارجها، وأعلى ما يريده بعضها القليل من الإصلاحات التي تضمن الاستقرار الدولي.

انتهى غربياً زمن التبشير بالديموقراطية، وهو إلى حد كبير ارتبط بالحرب الباردة، وبمحاولات نشر الديموقراطية ضمن الجزء الأوروبي الذي كان خاضعاً للمنظمة السوفيتية، بينما دعَم الغرب ضمن انقسامات الحرب نفسها نظماً ديكتاتورية في أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط وسواهما. انتهى أيضاً زمن الدعوات إلى الفوضى الخلاقة، المرتبط بمحاولة التغيير في الأطراف ومنها الشرق الأوسط. هذا المشروع، الذي انتعش أثناء سيطرة المحافظين الجدد على إدارة بوش الابن، بدأ نهايته الفعلية قبل انتهاء ولاية بوش، وخلّف رأياً عاماً أمريكياً مناهضاً للتدخل الأمريكي لأي سبب كان، باستثناء ما يمس الأمن القومي مباشرة.

لا يخشى الغرب من إعلان نواياه على النحو الذي يصوّره أصحاب نظرية المؤامرة، على الأقل لا توجد استراتيجيات ونوايا خبيثة غير معلنة، وما يبقى سرياً له علاقة على الأرجح بشبكة علاقات "أو بأدوات قذرة أحياناً" داعمة للاستراتيجيات المعروفة والمعلنة. من ذلك أن عزوف الغرب عن الاهتمام بالمنطقة العربية على النحو القديم ليس سياسة يُراد بها توريط قوى دولية وإقليمية، ومن ثم الانقضاض عليها بعد الإيقاع بها. ولنتذكر أن انخفاض الاهتمام بالمنطقة، مع الانعطاف إلى الشرق الأقصى، أتى صريحاً جداً مع عهد أوباما، ولم تتغير الخطوط الاستراتيجية الكبرى مع مجيء ترامب، فيما عدا ميل الأخير أكثر من سابقه إلى سياسات الانعزال والوقاية، والتشديد مرة تلو الأخرى على تجنب التدخل العسكري، والتقليل الحاد من التدخلات الأخرى التي لا تحمل منفعة مباشرة.

حصيلة السياسات الغربية الراهنة تعكس الرأي العام الغربي، وهي بمجملها وقائية وغير هجومية، بل تفتقر إلى عنصر المبادرة السياسية. ينقسم الرأي العام الغربي بين يمين متطرف وشعبوي صاعد، لا يخفي انحيازه إلى أنظمة الاستبداد في المنطقة العربية بعدّها ضامناً لضبط بلدانها بقبضة من حديد، وعدم تسرب موجات لجوء جديدة ولو تحت طائلة الإبادة. اليسار المتطرف أو الشعبوي الصاعد لا يختلف في تعاطفه مع الأنظمة، وإن كانت مواقفه مختلفة إزاء اللاجئين في الغرب، وفي جزء معتبر من أرضيته الفكرية يقوم على أصولية معادية للرأسمالية و"الرجعية" بمفاهيم الحرب الباردة. بين الجهتين، لا تملك أحزاب الوسط ويمين الوسط ويساره، وهي التي تناوبت على السلطة خلال عقود، لا تملك برامج جديدة وجريئة وطموحة داخلياً، وهي بموقع دفاعي متهافت بسبب الأزمات الاقتصادية والهيكلية التي يصعب حلها في غياب تلك البرامج. تلك اللوحة تجعل الغرب أقرب إلى دعم سلطات الاستبداد في المنطقة من التفكير بتغييرها، ولا بأس أن نتذكر وجود وعي يتسلل من هنا وهناك مفاده استحالة حصول تغيير ديموقراطي في المنطقة لأسباب ثقافية.

قد يُقال أن الغرب موجود ويتدخل حقاً بأساليب جديدة أو متجددة، ومن ذلك سلاح العقوبات الاقتصادية. هذا صحيح لمن لا يفهم محاولة الغرب إدارة انسحابه، وترتيباته لما بعد الانسحاب، ومن ضمنها توزيع الفراغ الاستراتيجي الحاصل في المنطقة. فالغرب الذي لم يعد له مطامع مباشرة في هذه الدول حريص على ألا تصبح مصدراً لتهديد أمنه، وألا تدخل في حلقة غير مضبوطة من صراعات النفوذ العنيفة، خاصة مع تداعيات الأخيرة من موجات اللجوء ومن التأثير على سوق الطاقة.

في كل الأحوال، الغاية من سلاح العقوبات لم تكن في أي وقت إسقاط الأنظمة، والغرب جرّب السلاح ذاته مع صدام حسين بلا جدوى، وربما بقي صدام حاكماً حتى الآن لولا إسقاطه بالغزو الأمريكي. المعلن، والحقيقي، فيما يخص العقوبات هو جر الأنظمة المستهدفة بها إلى عملية سياسية تتعلق بترسيم النفوذ في المنطقة. الأثر الشعبي للعقوبات، متضمناً تعزيز مشاعر النقمة وصولاً إلى الثورة بسببها، هذا الأثر لا يريده الغرب إلا كأداة أخرى من أدوات الضغط على الأنظمة، بهدف تعديل سلوكها لا بهدف إسقاطها.

ربما يلزمنا قليل من التواضع كي لا نعتقد أن المنطقة محط أطماع الغرب دائماً، وكي لا نثمّن قيمتها الاستراتيجية "ومنها قيمتها في ميزان الاقتصاد العالمي" بأكثر مما هي عليه حقاً. نظرية المؤامرة تعتاش أيضاً على هذا الإحساس، ومن يعتنقها خارج الأنظمة يعزّ عليه الاعتراف بالواقع المزري، مثلما يعزّ عليه "بلا وعي" رؤية المنطقة غائبة عن صدارة الاهتمام الغربي. ولو كان الغرب يسعى إلى التغيير الجذري لما أهدر سنوات من الثورات العربية، ولو كان يريد الفوضى لما توانى عن إذكائها بدل محاصرتها في ساحات محدودة. ما لدينا من سفارات غربية هي سفارات عاطلة عن أي فعل، باستثناء تقاطعها مع الأنظمة في محاولة تجنب التغيير وتمجيد الاستقرار، وهذه ليست مؤامرة على شعوب المنطقة؛ هي سياسات قصيرة النظر من المرجح ألا تنفع الغرب مستقبلاً.   

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024