الكرة: عدالة القدَر المنتظرة

شادي لويس

الثلاثاء 2018/05/29
كرة القدم كالقدَر. فمع لا عدالتها أحياناً، وعشوائية ضربات الحظ والنحس التي تلطم بها جمهورها بلا شفقة، فإنها لا تخلو من عِبرة غير مقصودة. فإن كان الجمال ظاهرها، فالأخلاق باطنها. قواعد اللعب والتعدي عليها، عدالة العقوبة والإفلات منها، المعركة الدائمة بين المثالي والواقع، الوفاء والخيانة، الموهبة الفردية والجماعي. تلك الخشونة تمنح الكرة أرضيتها، كنسخة أقصر من الحياة، وأكثف منها في دراميتها، كدورة متجددة وفرصة أخرى للقدَر حتى يصحح أخطاء الماضي حيناً، وكانتقام من العالم باختلاس بهجة آثمة حيناً آخر.

لا يبالغ المتكلمون عن "نادي الأخلاق"، إذ يعبّرون عن صدمتهم في ما كشفه بيان رئيسه الشرفي السابق، ترك آل الشيخ، عن سوء إدارة واستغلال في "النادي الأهلي" المصري. فإن كانت الكرة ابنة عالمها، ويعرف جمهورها أن كل شيء يباع ويشترى، فهذا لا ينفي أخلاقيتها، بل على العكس يؤكد الحاجة إلى قيمة ما. فأسطورة محمود الخطيب التي اهتزت، في فضيحة آل الشيخ، لم تكن مبنية فقط على اللعبة الحلوة، وإنجازه الرياضي، بقدر ما كانت مؤسسة على الفضيلة، وهالة من حسن الخلق أحاطت به في الملاعب وخارجها.

لا يبالغ أيضاً أولئك الذين، في غضبتهم من خشونة سيرخيو راموس المتعمدة، وفجيعتهم في خروج محمد صلاح وإصابته، أن يخلطوا الأمر بالأخلاق تارة، أو أن يتحدثوا عن طبقية المواجهة بين النادي المدريدي الملكي ونادي عمال ليفربول تارة، أو أن يأخذوا الأمر خطوة أبعد من اللازم، كمؤامرة على مصر، أو من نظامها، بل وحتى كحرب على الإسلام. فهم محقون بشكل أو بآخر. فإذا كانت السياسة هي الحرب بوسائل أخرى، أو أن الحرب هي الأصل والسياسة تحايل عليها، فإن الكرة استمرار للإثنين معاً. بين الربح والخسارة، النصر والهزيمة، الانتماء العابر للحدود مقابل الهويات الوطنية، أخلاق اللعبة ممزوجة بتسليعها، تبدو السياسية والحرب ماثلة أمامنا دماً ولحماً.

لا يعني هذا أن تكون الكرة، بالضرورة، تدجيناً للسياسة أو تسامياً للحرب إلى عنف أكثر وداعة، أو حتى تنفيسة كما يذهب هؤلاء ممن يلومون على صلاح عدم إعلانه موقفاً حازماً من تلك القضية السياسية أو غيرها. فالمستطيل الأخضر، كما المدرج الروماني حيث يُلقى بالمذنبين إلى الأُسُود، هو مسرح للتراجيديا والملحمة، يلعب على خشبته ممثلون حقيقيون، لا يسعون إلى محاكاة الحياة أو ترميزها، بل إلى الانخراط فيها بالفعل. فكَتِف صلاح المخلوع ليس رمزاً، بل هو أمر حقيقي جداً. وملايين آل شيخ، ليست علامة، بل أرصدة انتقلت من حساب إلى آخر. وملحمة صعود وهبوط الخطيب، وغيره، ليست حبكة يدّعي مؤلفها الحكمة، بل وقائع لا يجب أن تشككنا في العبر التي تُضمّنها في أصالتها.

لكن الحياة لا تأخذ مكانها في الملعب فقط. فالمدرجات والشاشات، كما هي ساحة الجماهير للبهجة والألم، تفتح أبوابها للسياسة وللحرب. فبين مذبحة الألتراس في بورسعيد، ومذبحة إستاد الدفاع الجوي، وعشرات القتلى وأحكام الإعدام، يختلط الرمزي بالجثث، والحماس للعبة الحلوة في المقاهي، بأحكام السجن، المظاهرات والاشتباكات مع الأمن، باحتفالات الصعود إلى كأس العالم، الصراع على الحيز العام، مع التحايل على الحقوق الحصرية لبث المباريات... وتظل الكرة هي الحرب والسياسة معاً حين يموت الاثنان خارجها.

وفيما يتأهب الجميع للمونديال، وتتوارى تبعات بيان آل شيخ خلف فجيعة صلاح، تعلن رابطة مشجعي الزمالك - ألتراس "الوايت نايتس"، عن حل نفسها، وتحرق علمها. تحوم شكوك حول اختراق أمني للرابطة، وتناقض في مواقف منتسبيها من صحة الإعلان. لكن بلا شك، فإن الضربات الأمنية العنيفة التي تعرضت لها روابط المشجعين، والتي كانت قد دفعت رابطة مشجعي النادي الأهلي، قبل أسابيع، إلى حل نفسها وحرق علمها أيضا، "من أجل مستقبل الجميع"، لم يعد ممكناً الصمود أمامها طويلاً.

تحت ثقل الخوف، يتخلى المشجعون عن الحرب والسياسة في المدرجات وخارجها، إلى حين. ويكتفون بهما في الملعب وعلى الشاشة، كصورة مصغرة للعالم، تمنح بهجة آمنة في واقع تعس ومحفوف بالخطر، وفي انتظار عدالة مؤجلة يضرب بها القدر في لحظات لا يمكن توقعها، في اللعبة كما في الحياة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024