النسبيّة اللبنانية تعني.."المُسادسَة"!

وليد حسين

الجمعة 2017/02/17
يتغنى اللبنانيون بديموقراطيتهم التوافقية، بلا مراجعة، ولو بسيطة، لضمائرهم الحيّة، أو الميتة، لا فرق. حتى أن بعضهم ذهب في السابق إلى حد وصفها بـ"النموذج" لتعايش الطوائف. لكأنّنا لم نكتوِ بنار طوائفنا وتعايشها السلمي.

وبمعزل عن أن التوصيف الدقيق لنظامنا السياسي، بحسب آرند ليبهارت، هو "ديموقراطية تقاسم السلطة بين الجماعات"، power sharing democracy، لا الديموقراطية التوافقية consensual democracy، فإن "التجربة" اللبنانية، لم تنجح، لا قبل الحرب الأهلية ولا بعدها، في إرساء سِلم أهلي دائم ومستدام. وإذا كان ليبهارت يوصي باعتماد "الديموقراطية التوافقية" للدول المتجانسة والديموقراطيات المستقرّة، كنوع من الإنفتاح الديموقراطي، فهو يؤكّد على أنه لا بديل للمجتمعات غير المتجانسة، كحال لبنان، عن تأسيس نظام سياسي قائم على "ديموقراطية تقاسم السلطة بين الجماعات"، بغية تأمين الاستقرار والسِّلم الأهلي. لكن، لنجاح هذا النوع من الحكم، ثمة مسائل "مفتاحيّة". إذ يجب أن تكون السلطة السياسية موزعة بشكل نسبي بين الجماعات، بحسب وزنها الديموغرافي، لتأمين مشاركة عادلة في القرار السياسي. ويجب أن يكون هناك نوع من "حكم ذاتي للجماعات"، بمعنى أن تكون لكل مجموعة استقلالية في إدارة شؤونها الداخلية، مثلاً في التعليم والتربية والأحوال الشخصية، بالإضافة إلى حق النقض أو الفيتو للمكوّنات كافة.. إلى غيرها من الشروط اللاحقة لتأسيس النظام، والمتمثلة في إعادة الفحص الديموغرافي للمجتمع، ليتمّ تحديث تقاسم السلطة بناءً عليه، ولكي يستطيع النظام السياسي تأمين حكم ديموقراطي مستقرّ في الدول غير المتجانسة.

طبعاً، لم يعمل اللبنانيون على مراجعة خياراتهم لجهة نوعية النظام السياسي الأفضل للبلد. وجلّ ما فُرض عليهم في إتفاق الطائف، هو إعادة صياغة النظام، لتحلّ "المناصفة" مكان صيغة العام 1943. لم يفكروا في مساوئ الديموقراطية التي تسمّى توافقية، والتي تتجلى في أسوأ أشكالها في ديموقراطية الـpower sharing عند ليبهارت.

ولعلّ النظرة "الاسترجاعية" السريعة للواقع اللبناني، إنطلاقاً من نظرية ليبهارت، تفي بالغرض. فقد كشفت الحرب الأهلية بأن النظام اللبناني بصيغة 1943، لا يتلاءم والمتغيرات الديموغرافية والإجتماعية التي حصلت في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، كما أثبتت هشاشة أساسية في توافق الطوائف اللبنانية في ما بينها. وبدورها، فإن صيغة اتفاق الطائف، الذي أتى نتيجة عوامل خارجية أكثر منه نتيجة توافق داخلي، أثبتت أنها عبارة عن "فرض" لقواعد عرجاء لإعادة تقسيم السلطة بين الطوائف، تحت مسمّى المناصفة. وما نشهده اليوم خير دليل على ذلك. وهي قواعد عرجاء لأن توازن السلطة والإستقرار، في ما بعد "الطائف"، تأمّنا بواسطة الوصاية السورية، لا نتيجة الأسس الداخلية التي يؤمنها النظام السياسي.

فهل فعلاً نريد الديموقراطية التوافقية والنسبية؟ أم أننا نريد من النسبية تقنيات عدّ وفرز الأصوات، لا موجباتها الأساسية لتأمين الاستقرار والسِّلم الأهلي الدائم على طريقة ليبهارت؟ فالنسبية في الحالة اللبنانية، وبحسب قوائم الناخبين، لا تعني حتى الوصول إلى المثالثة، بل "المسادسة" وأكثر بقليل. فالمسلمون منقسمون إلى طوائف متناحرة، والمسيحيون إلى زعامات وأشباه أحزاب على تضاد تام.

هل فعلاً نريد النسبية وعدالة التمثيل، من دون التنبه إلى حالة "الشعوب" اللبنانية المتعايشة بسلام ووئام؟! أم أننا نريد منها تكبير زعامات سياسية والقضاء على غيرها من الزعامات؟

هل فعلاً نريد النسبية الإقصائية وسطوة السلاح؟ أم نريد نسبية وفق "وصفة" ليبهارت التي تؤدي، وبحسب قوائم الناخبين، إلى قسمة "عادلة" هي 36 نائباً سنياً و36 نائباً شيعياً و7 دروز وواحد علوي، و26 للموارنة و9 أرثوذكس و6 كاثوليك وواحد انجيلي و4 أرمن أرثوذكس وكاثوليك و2 أقليات؟

لعل معضلة لبنان ليست في النسبية، بل في نظامه السياسي الذي لا يجدد نفسه إلا بواسطة حروب متجددة. لكن، وقبل أن نصل إلى هذه النتيجة المرتقبة، على اللبنانيين التفكير جيداً: أي نظام سياسي يريدون؟ هل يريدون الحفاظ على نظام "تقاسم السلطة بين الجماعات"، تحت مسمى الديموقراطية التوافقية؟ أم الإنتقال إلى نظام آخر يؤمن عدالة التمثيل من دون اللجوء إلى "العدد". فالديموقراطية اللبنانية هي الوجه الآخر لعملة العدد، الذي عاجلاً أم آجلاً سيطفو على سطح تناقضات الواقع اللبناني العقيم. هذا ما حصل بعد ميثاق العام 1943، وهذا ما سيحصل مستقبلاً، لا سيما عندما يصبح موضوع سحب سلاح "حزب الله" على طاولة البحث.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024