شكراً أردوغان!

عمر قدور

الثلاثاء 2019/03/12
لم يتوقف خلال الأيام الأخيرة قصف قوات الأسد مناطقَ وبلدات في ريف حماة الشمالي وريف إدلب، موجة القصف المتواصلة تهدف بحسب ما يُشاع إلى السيطرة على طريق حلب الدولي الذي يربطها بدمشق، وفضلاً عن وقوع بلدات ضخمة إلى جوار الطريق مباشرة فإن السيطرة النارية عليه ستقتضي السيطرة الميدانية على مساحات واسعة على جانبيه. أي أن تفاهم إدلب الأخير، بين أردوغان وبوتين بإسناد غربي قد انقضى مفعوله، وقد لا يتبقى منه سوى كيلومترات قليلة محاذية للحدود التركية، وظيفتها تنحصر بتكديس اللاجئين ضمن ظروف لاإنسانية لا يكترث بها الغرب طالما أنهم لم يعبروا الحدود في اتجاهه.

تزامناً مع القصف، لم يتوقف المسؤولون الروس عن التلميح إلى إخفاق أنقرة بالوفاء بالتزاماتها بموجب تفاهم إدلب، وكما تسرب سابقاً من التفاهم فهو ينص على فتح الطريق الدولي، وهذه كانت غاية المنطقة منزوعة السلاح الثقيل من جهة الفصائل التي ترعاها أنقرة. البند الآخر، الذي يُستعاد إلى الواجهة عن اللزوم، هو فشل أنقرة في تحجيم جبهة النصرة، وصولاً إلى إيجاد حل نهائي لها بعد فشل المحاولات السابقة من قبيل إعلان استقلالها عن تنظيم القاعدة وتغيير اسمها إلى "هيئة تحرير الشام".

لا ضرورة للتذكير بمآل مناطق خفض التصعيد الأخرى التي ابتُدعت برعاية ثلاثي آستانة، سوى للتنبؤ بمآل المنطقة الوحيدة المتبقية كي يكون المسار قد أتم مهمته على أكمل وجه. ذريعة تواجد مقاتلين من النصرة استُخدمت لاجتياح مناطق لا وجود كثيفاً فيها لمقاتلي الجبهة، ومن الأولى استخدامها في إدلب بعد تمكينها من السيطرة على معظمها. لقد رأينا مثلاً في مطلع العام كيف استطاعت النصرة القضاء على حركة الزنكي في معاقلها، وجرت تلك المعركة تحت بصر الراعي التركي، من دون أن يتحرك لوقفها أو للتعديل في موازين القوى.

كي لا يكون لدينا أوهام حول قوة النصرة، لا يوجد فصيل سوري قوي بذاته، أي من دون رعاية ودعم خارجيين قويين. تمكين النصرة من الاستقواء على فصائل أخرى، غير مصنّفة مثلها إرهابية بموجب قرار لمجلس الأمن، أمر يثير الريبة في الحد الأدنى، ولا نغامر باتهام المسؤولين عن ذلك بالتواطؤ المكشوف الذي يمعن في الإساءة إلى أهالي المنطقة المعنية وإلى عموم السوريين. فلو شاءت أنقرة، مع جهات أخرى ربما تكون داعمة للنصرة، لتم إيجاد حل يجنّب أهالي إدلب مذبحة متوقعة في أي وقت، بما في ذلك حل الجبهة أو إرغامها على حل نفسها إذا حوصرت وحوربت بجدية من قبل الراعي التركي والفصائل التابعة له، بدل أن يتولى المهمة القصف العشوائي الذي يستهدف المدنيين قبل المقاتلين.

عندما لا تلتزم أنقرة بالتزاماتها وفق تفاهم إدلب يأتي سلوكها كأنما ضمن سيناريو مرسوم ومتفق عليه، وكأنما تقدّم لحليفها الروسي الخدمة التي يريدها أصلاً، ما يجعل من التفاهم لعبة خبيثة لا أكثر ولا أقل. حتى نقاط المراقبة التركية التي انتشرت في المنطقة المستهدفة تبدو الآن كأنها كانت للتعمية على المخطط المرسوم، فتلك النقاط واكبت المنطقة المنزوعة السلاح لتطمين الأهالي، والإنجاز الوحيد لها بقاؤها خارج دائرة القصف بينما يطال المدنيين على بعد أمتار منها.

وبينما تعمل ماكينة القصف الأسدي بلا هوادة، يتحفنا مسؤولون أتراك بتصريحات في اتجاه مغاير تماماً، مفادها استعدادهم لاجتياح مناطق في شرق الفرات تسيطر عليها الميليشيات الكردية، ومن المعلوم أن جزءاً أساسياً من تلك الاستعدادات يقوم على تهيئة فصائل سورية تابعة لأنقرة للزج بها في مقدمة المعركة. التصعيد التركي إزاء الحليف الأمريكي التقليدي يرافقه صمت تجاه الحليف الروسي المستجد، وتأويل هذا الصمت بتقاسم الأدوار لا يدخل في باب التكهنات، لأن كل طرف يخوض ما يعتبرها معركته الأهم، مع عدم إغفال تكامل المعركتين وتوافق مصلحتي الطرفين حالياً على الأقل.

وكي لا تساورنا الظنون إزاء خطر النصرة على قوات الأسد، أو حول استعداداتها لصد هجوم محتمل من قبل قواته، فالجبهة منشغلة أكثر من أي شأن آخر بما دأبت عليه من تطويع السكان وفق فهمها الخاص للدين. كمثال على ذلك نجد جامعة إدلب تصدر قراراً قبل ستة أيام يحدد نوع اللباس المحتشم لطالباتها وموظفاتها على أن يكون فضفاضاً و"يستر" البدن حتى الكعبين، مع منع تام لوضع العطور، تحت طائلة العقوبة وتوكيل "مشرفة المكتب الدعوي" بالمتابعة. النصرة بدورها تصرّ على تقديم كافة البراهين على أنها لم ولن تتغير، وذلك عن وعي وتصميم لا ينبغي الشك فيهما أو التساؤل عن الجهة التي يخدمانها موضوعياً.

السيناريو "الأمثل" لهذه المعطيات هو الانتهاء أولاً من كذبة المنطقة منزوعة السلاح، بقضمها لصالح الأسد وحلفائه، ما يضعنا أمام موجة تهجير ونزوح جديدة. ولأن ما تبقى من إدلب لن يكون كافياً لاستيعاب الأعداد الضخمة، ومنها نازحون للمرة الثانية أو الثالثة، ولأن الحدود التركية ستبقى مغلقة أمامهم، لا يُستبعد أن يجد أردوغان مع بوتين الحل الأنسب بترحيلهم إلى عفرين أيضاً. في تجربة القضاء على حركة الزنكي، وقبلها في اجتياح الغوطة، استثمر أردوغان في تحويل المدنيين النازحين إلى مستوطنين في عفرين، وفي تحويل قسم من المقاتلين السابقين إلى مرتزقة في حربه على الأكراد. أما الاستثمار البعيد المدى فهو تعزيز العداء بين أكراد سوريا وعربها، وهذا هدف يلتقي عنده أردوغان والأسد ومتطرفو الجماعتين.

يحكم أردوغان بلاده وفق دستور علماني، في حين تخضع المناطق التي يسيطر عليها في سوريا لما يوافق مزاجه الإسلامي في أشد حالاته تطرفاً وشعبوية. نفترض بقادة الإسلاميين أنهم يدركون مغزى هذه القسمة الخبيثة، ويعرفون مقدار الأذى الذي تتسبب به للسوريين، لكن مصالحهم تقتضي الاستمرار فيها. المصيبة هي لدى الأتباع المقتنعين بحكمة وصواب أردوغان مهما فعل، والمواظبين على شكره كأنهم منوّمون مغناطيسياً منذ ما قبل آستانة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024