الانتخابات كإلتزام بالموروث السوري

وجيه قانصو

الأربعاء 2018/05/16

أجريت الانتخابات النيابية في لبنان، ومثلما كان متوقعاً، عاد الطاقم السياسي نفسه، مع فارق أوزان طفيف بين قواه يحسب بالنقاط لا بالفوز الجذري لأي قوة على الأخرى، مع ظهور أصوات جديدة لم يطلها تلوث الفساد، ولديها طموح بالتغيير أكبر بكثير من حجمها البرلماني ولا يتناسب مع عمقها المجتمعي.

عمد الكثيرون إلى استثمار النتائج شعبوياً وأيديولوجياً لإقناع قاعدته بالظفر. لكن الجميع حاذر من استثمارها سياسياً أبعد من حقيقتها ودلالاتها. ما يعني أن قواعد اللعبة التي حكمت الحياة السياسية منذ الانسحاب السوري ما تزال قائمة، مع تحسن طفيف للبعض (حزب الله، القوات اللبنانية) في رفع سقف شروطه وزيادة عدد وزرائه ونوعية الوزارات التي سيمسك بها، وتحسس آخرين (تيار المستقبل والتيار الوطني الحر) الحاجة الملحة لبناء تحالفات متينة وواسعة تعوض النقصان الحاصل في عدد نوابها، وتمكنها من صد طموح القوى المنافسة لها.

إذا كانت متغيرات المشهد السياسي محدودة، فإن المشهد الانتخابي حمل دلالات اجتماعية وثقافية تستحق الوقوف عندها.  فبعد أن قلَّص القانونُ الانتخابيُ التنافسَ السياسيَ من الاستقطاب العام الذي يقوم على الأرضية الوطنية الجامعة إلى تحويله مشهداً طوائفيا وتنافساً على تمثيل الطوائف لا المواطنين،  عمدت القوى السياسية إلى استحضار هواجس طائفتها ومخاوفها وآمالها وتطلعاتها ومصالحها. ما تسبب بشرعنة الشعور الطائفي وملحقاته العصبوية من جديد، فبات الشرط القبلي لأي تضامن اجتماعي أو ولاء سياسي، منطلقاً أساسياً في تعبئة أو استقطاب أو استمالة أو مراكمة أي حاصل انتخابي،

اللافت هو اختلاف المشهد الانتخابي بشكل جذري من طائفة إلى طائفة، وظهور مزاج اجتماعي وتكوين ثقافي خاص بكل طائفة عكسهما أداء المرشح والناخب معاً. كأنك حينما تتنقل بين الطوائف، تعبر من وطن إلى آخر ومن مجتمع إلى محتمع آخر، رغم انتفاء الحدود الجغرافية بينها وتداخل توزعها السكاني. تبين أن معضلة لبنان الكبرى تجاوزت مشكلة النظام الطائفي بأشواط، لتصبح معضلة نقل الانتظام الاجتماعي من تضامن بدئي (Communities) تسود فيه روابط الدم والقرابة ومعطيات الولادة، أي علاقات الحميمية (Intimacy) ذات الطابع الشخصي، الى بناء مجتمعي يقوم على باعث أخلاقي مطلق لا يقبل التخصيص وبناء عقلي شامل لا يقبل الاستثناء، أي علاقات فوق-شخصية جامعة بين أفراد غرباء عن بعضهم في ظروف النشأة لكن تجمعهم هموم الحياة وتحديات الوجود وعموم المصالح المشتركة.

إنه انتقال من رابطة الإكراه إلى رابطة الاختيار الحر، من مُعطى المُنجَز والجاهز إلى فعل الصناعة والابتكار، من علاقة الشبه والتماثل إلى جمالية التنوع والاختلاف، من حالة الركود والجمود والتكرار الممل إلى الحيوية والحراك والتجدد الخلاق، من هاجس البقاء إلى الاستجابة لفرح الحياة، من القبيلة الضاربة بعمق في اللاوعي إلى التضامنات الطوعية، من عدوانية العصبية إلى رحابة الحياة السياسية، من الولاء إلى المحاسبة، من الدويلات المُقّنَّعَة إلى الدولة، وأخيراً من الطائفة التي اختزلت الوطن وغيَّبت المواطن، إلى الوطن الذي يحضن الطوائف ويطلق طاقة الفرد إلى أبعد مداها الممكن.

تبين أن فشل تجارب المشاريع العابرة للطوائف، سواء أكانت قوى 8 آذار التي رفعت لواء المقاومة أو قوى 14 آذار التي رفعت شعار الدولة، لم يكن بسبب تهافت مشروعي المقاومة أو الدولة، وإنما بسبب التناقض في بنية وخطاب القوى المعبرة عن المشروعين.  أما المقاومة فقد أُطرت بقالب ديني ومضمون عقائدي شديد الخصوصية جعلا المقاومة سمة ثقافية وحاجة بقاء وضرورة أمان لشريحة طائفية ضيقة لا تقبل الاتساع وتحول دون صيروة المقاومة مشروعاً وطنياً أو قومياً عاماً. في حين أصرَّت قوى 14 آذار على الاحتفاظ بتكوينها الطائفي واستنهاض جمهورها من منطلقات عصبوية، ما أوقعها في ثنائية متضاربة: منطق الدولة ومقتضيات تحققها الفعلي من جهة والولاء السياسي على قاعدة طائفية من جهة أخرى. المشاريع الكبرى مخاطرة غير آمنة وقفزة في المجهول إلا أن زخمها وقوة اندفاعها وجاذبية استقطابها يكمنان في رهاناتها التي تحث الإنسان على الإنتقال إلى مستوى وجودي أعلى وأرقى.  هي مغامرة آثر الجميع تجنبها لصالح حفنة من المكاسب المضمونة.

أنهت الانتخابات النيابية أشكال الاصطفاف السياسي السابق، وأظهرت تهافت الادعاءات العابرة لحدود الطوائف، وكشفت عن ضعف قوى المجتمع المدني في تعبئة اللبنانيين على قاعدة وطنية عامة، وبينت أن توزيع الأصوات جاء استجابة لتقدير ذكاء اصطناعي (حاسوب) في بناء الحاصل الانتخابي، وعادت القوى إلى قواعدها الطائفية لبناء أرضية تمثيل متينة لتحصين مواقعها. هي مؤشرات تكشف عن تكرار رتيب وممل للمشهد السياسي القادم رغم صخب خطبه وضجيج سجالاته،  وتُنبؤنا بأن الحياة السياسية الناشطة والفاعلة في لبنان مرجأة إلى أمد بعيد.



©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024