السودان: المهمة الثقيلة

شادي لويس

الثلاثاء 2019/08/20

في منصة التوقيع على اتفاق المرحلة الانتقالية السودانية، غابت النساء. باستثناء مقدمة المراسم، لم تجد "الكنداكات"، اللواتي كن رمز الثورة ووقودها، مكاناً، سوى في الصفوف الأخيرة من القاعة، ولم تتعدّ نسبتهن من الحضور العشرة في المئة في أفضل تقدير.

في كلمته أثناء المراسم، وجّه محمد ناجي الأصم، ممثل "قوى الحرية والتغيير"، رسالته إلى نساء السودان اللواتي استهدفهن النظام، بمحاكم ونيابات وأجهزة شرطية وقوانين خاصة، أنشئت لإذلالهن. ووعد الأصم بإلغاء كل القوانين التمييزية ضدهن، وبالالتزام بنسبة لا تقل عن 40% من أعضاء المجلس التشريعي المزمع تشكيله للمشاركة في إدارة البلاد خلال السنوات الثلاث المقبلة. وفيما بدا واقع الأمر على المنصة، متناقضاً مع التصريحات، فإن ترشيحات "قوى الحرية والتغيير" لعضوية المجلس السيادي، أكدت تهميش النساء. فبين الأسماء الخمسة التي تم تداولها، كانت هناك امرأة واحدة، هي الدكتورة عائشة موسى، وتم تداول أخبار يصعب التأكد من صحتها، عن اتفاق المجلس العسكري و"قوى الحرية والتغيير" على السيدة نيكولا عبد المسيح، لتكون العضو الحادي(ة) عشر(ة) في المجلس السيادي. وبذلك، فتمثيل النساء في المجلس يبدو إنه سيكون بين واحدة واثنتين من ضمن 11 مقعداً. وفي الأغلب، فإن طرح اسم السيدة عبد المسيح، المفتقدة للخلفية السياسية، ليس إلا تسديداً رمزياً لتمثيل النساء والأقليات الدينية.

ولا يبدو أي من هذا نهائياً بالطبع، وبالأخص بعدما تعثرت "قوى الحرية والتغيير" في الاتفاق على تسمية مرشحيها الخمسة في الموعد المحدد. فطرح اسم طه عثمان إسحق، عضو "تجمع المهنيين"، كان سبباً لكثير من الغضب داخل التجمع نفسه، والذي وعد في السابق بألا يشارك أعضاؤه في مؤسسات المرحلية الانتقالية. وكان ذلك اللغط كافياً حتى يعلن إسحق اعتذاره عن المنصب. ولا يجب النظر إلى هذا التأخير في إعلان أسماء المرشحين، كعلامة على تخبط "قوى الحرية والتغيير" أو ضعفها، بل ربما العكس، أي المرونة والقدرة على التواصل مع الجماهير والمراجعة وإنكار الذات أيضاً. إلا أن الجدير بالملاحظة إن ترشيح إسحق لم يكن بوصفه عضواً في "تجمع المهنيين"، بل ليشغل مقعد دارفور في المجلس السيادي. وتكشف تلك المعلومة الصغيرة، مدى تعقيد مسألة المحاصصة، والمفاوضات حولها، وتقاطع انتماءات الأفراد، وتعارضها أحياناً كثيرة.

وبين الكثير من الانتماءات السياسية والجهوية والقبلية والثقافية وتاريخ طويل من الصراعات، يبدو أن تغير وضع النساء وغيرهن من الجماعات التي تعرضت للتهميش والاضطهاد سيحتاج وقتاً طويلاً. يوجه الأصم في كلمته 15 رسالة، ببلاغة بسيطة وآسِرة، والكثير من الثقة في النفس والقضية، مع وعي شديد الوضوح بحجم التحدي الذي يواجهه السودان. فواحدة من أهم الرسائل تتعلق بالحرب. السودان ورث تركة ثقيلة من النزاعات المسلحة، ومازالت تروسها تدور في أكثر من مكان، والأصم يوجه حديثه للفصائل المسلحة داخل "قوى الحرية والتغيير" وخارجها، معترفاً بفضلها في نجاح الثورة، إلا أن دعوته "أرض سلاح" لوقف الحرب، لا يبدو تحقيقها هيناً. وتوجه الكلمة رسالة أخرى، للقوى الإقليمية والدولية، تعترف ضمناً بأن السودان فقد استقلاليته منذ وقت طويل، وأضحى مرتهناً لسياسات دول الجوار وغيرها. وفي هذا أيضاً، لا شك في أن شعار "وطن مستقل، وشعب حكيم" لا يمكن تحقيقه فقط بالنوايا الحسنة. يوجه الأصم رسائل إلى أهالي الشهداء، وجنوب السودان، وإلى أصحاب الانتماءات القبلية والإثنية التي اضطهدها نظام البشير، وإلى الفقراء والمحتاجين، وهم الغالبية من أهالي السودان، وكلها قضايا شائكة وطارئة والتصدي لها سيواجه مشقات كثيرة.

في النهاية يبعث الأصم برسالته الأخيرة إلى "قوى الحرية والعدالة" نفسها، يعترف فيها ضمناً بمخاوف الانقسام بين فصائلها الكثيرة، واحتمالية الفشل، والاستسلام أيضاً. ومن دون وعود كثيرة، تضعنا مراسم التوقيع، وخطبة الأصم بالأخص، أمام المهمة الثقيلة التي تنتظر الجميع، وأمام التحديات التي لا يبدو تحييد العسكر أصعبها، وأمام هشاشة الوضع السوداني، الذي ربما يكون سبب قوته، ونجاح تجربته في التحول الديموقراطي.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024