سيادة دولنا تباع بالجملة

مهند الحاج علي

الإثنين 2020/01/13

قبل أيام في إسطنبول، أبرم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، اتفاقين لإطلاق النار في ليبيا وسوريا. مثّل هذا الاتفاق تسوية بالجُملة هي الأولى من نوعها منذ تبلور ملامح هذه الثنائية الروسية-التركية غداة أزمة إسقاط طائرة "سوخوي 24" الروسية في 24 تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2015.  

روسيا وتركيا قوتان تسعى كل منهما إلى استعادة دور إقليمي في دول تشهد صراعات داخلية وأزمات أو حروب مديدة، وتجدان في التعاون فوائد منها مزاحمة القوى الخارجية المنافسة. ذاك أن هذه الثنائية مميزة لأن فيها تبادل أدوار يُتيح عقد صفقات لوقف النار، وأيضاَ لإطلاق عملية سياسية كما حصل في الاستانة. ما يُساعد هذه الشراكة ويجعلها مثمرة هو أن روسيا وتركيا تدعمان أطرافاً متخاصمة في كل من ليبيا وسوريا، وربما في ساحات مستقبلية أخرى (مثل لبنان على سبيل المثال). إنها شراكة مفيدة للطرفين، ويبدو أنهما يستثمران في فوائدها ويجترحان الآليات لديمومة هذه العلاقة ومأسستها.

ولكن لماذا العجلة في إنهاء هذه الصراعات، بما أن دور الثنائية قائم على تدخل كل من موسكو وأنقرة في أزمات لمصلحة طرف دون آخر، ومن ثم ايجاد الحلول الموقتة سوية والتوصل لاتفافات خفض التصعيد. فمن الصعب أن يدوم وقف النار في شمال سوريا أو في غرب ليبيا لفترة طويلة، بل الأرجح أن يتجدد القتال، على أن يعود الرئيسان المُنقذان أردوغان وبوتين الى محادثاتهما من أجل ايجاد حل جديد موقت للأزمة، أمنياً، واطلاق عملية سياسية طويلة الأمد. السؤال الأساسي هنا هو هل تُساهم هذه الشراكة في اطالة أمد حروب المنطقة وأزماتها، وفصل (تغريب) العملية السياسية عن مظالم السكان والفئات المتقاتلة؟ الإجابة الأرجح الى الآن هي نعم.

أبرز الفوائد الظاهرة الى الآن في هذه الثنائية، هي القدرة المتزايدة لكل طرف على ابتزاز أوروبا الغربية، سياسياً ومالياً. سوريا وليبيا مصدر وممر عبور للاجئين باتجاه أوروبا، وبالتالي فإن أي دور في هذين البلدين يمنح قدرة على الإبتزاز لأغراض سياسية ومالية. وكذلك تركيا وروسيا شريكان في خط غاز "تورك ستريم" الى جنوب أوروبا، وأيضاً في التموضع الاستراتيجي في هذا المجال الحيوي (في مواجهة مصر وإسرائيل وقبرص). وليبيا وسوريا بلدان واعدان في هذا المجال.

بعيداً عن مقتضيات الاستراتيجية، هناك في الشكل إهانة واضحة لا يرى أي طرف حاجة أو ضرورة لتجنبها. الرئاسة التركية تعاملت منتصف الأسبوع مع الاتفاقين بالمفرد، دون جمعهما، ربما لتجنب إحراج في المسألة ودعت في بيانها يوم الأربعاء الماضي "كل أطراف النزاع في ليبيا الى وقف العمليات القتالية في الساعة 00.00 من يوم 12 كانون الثاني/ يناير وإعلان وقف دائم لإطلاق النار". لكن سرعان ما تعاملت أنقرة بالجملة مع البلدين، إذ أعلنت وزارة الدفاع التركية في بيان لها يوم أمس أن "من الملاحظ أن الأطراف تعمل على الالتزام بوقف إطلاق النار منذ إعلانه في ليبيا وإدلب، ويبدو الوضع هادئاً باستثناء حادث أو اثنين فرديين". 

مثل هذا الإعلان دعائي في طبيعته، وإلا لماذا تم دمج البلدين الواقعين في قارتين مختلفتين، في بيان واحد؟ هناك دلالة على هذا الدور المتعاظم لتركيا، ربما لصرفه في الداخل، وأيضاً لإظهار المكانة التركية الجديدة في المنطقة للغرب. لسان حال البيان أن أنقرة صنعت وقفاً لإطلاق النار في سوريا وليبيا على حد سواء، وأنها لاعب مُقرر في أكثر من ساحة. هنا يلتقي "السلطان" و"القيصر" في طموحاتهما العابرة للحدود.

ذلك أن بوتين قرر استعراض نفوذه مجدداً في زيارته دمشق وبدلاً من لقاء الرئيس السوري بشار الأسد في قصر الشعب، كما يقتضي البروتوكول، ارتأى استدعاءه الى مقر القوات العسكرية الروسية. في دمشق، اجتمع بوتين مع الأسد ووراءه صورة للرئيس الروسي نفسه، وعلى الأراضي السورية.

لا بد من جمع هذه المشاهد مع تبادل الرسائل العسكرية والأمنية الإيرانية-الأميركية على الأراضي العراقية، وبالدم العراقي، ليكتمل مشهد الإهانات، وبالجملة في المنطقة. هذا بعض ما تعدنا به هذه الثنائية، والصراعات المرافقة لها.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024