سوريا بين ثورتين

عمر قدور

الثلاثاء 2019/11/05
كان المشهد أبلغ لو امتلأت الساحات والشوارع العراقية واللبنانية عندما كان المتظاهرون السوريون يستهلون ثورتهم، ذلك يصح بأثر رجعي فيما لو انتفض السوريون من قبل؛ يومَ انتفض اللبنانيون ضد نظام الوصاية الأسدي. اليوم تبدو اللوحة الناقصة بين انتفاضتين، في حين يمثل بينهما الخراب السوري كأنه قدر لا فكاك منه، وتنبعث آمال السوريين بانتصار اللبنانيين والعراقيين كتعويض عن الخيبة السورية الكبرى.

قد لا نخطئ أيضاً إذا تحدثنا عن مكر التاريخ، فقبيل اندلاع انتفاضتي لبنان والعراق كان السطح يشي باستتباب الوضع للقوى المسيطرة في المنطقة، ولم يكن أشد المتفائلين يتوقع ما حدث، خاصة في لبنان الذي يحكمه انقسام مجتمعي راسخ ميثاقياً. مكر التاريخ لا يعمل وفق الأحلام أو الرومانسية الثورية، وفي الأصل من التبسيط أن نأمل بانتفاضة شاملة لشعوب المنطقة، وأن ننظر إليها ككتلة واعية لمصالح مشتركة. قد يكون الآن هناك متظاهر في كربلاء أو بغداد وقف على الضد من الثورة السورية، وكذلك هو الحال في بيروت أو صور أو طرابلس، وقد رأينا سابقاً سوريين اصطفوا مع ثورتهم بعد سنوات من عدائهم لانتفاضة الاستقلال اللبنانية.

لكننا عندما ننظر إلى اللوحة الكلية سنعثر مثلاً على ما يجعل ارتدادات الثورة السورية في قلب ما يحدث في لبنان والعراق، مثلما نستطيع العثور على آثار لانتهاء عهد الوصاية الأسدية في لبنان ساهمت في انسداد الأفق الأسدي ككل ومن ثم الثورة عليه داخلياً. تتوسط سوريا ثورتين لا بالمعنى الجغرافي فحسب، وإنما أيضاً بالمعنى الجيوسياسي، وارتدادات الثورة السورية على نظام الوصاية الإيراني من العوامل التي يجدر الانتباه إليها. هذا النظام، كرد فعل لجميع الأنظمة المشابهة، دفعته الثورة السورية إلى التشدد في أماكن نفوذه، متجاوزاً بذلك الحد الذي يمكن احتماله بالنسبة للمتضررين منه، وبعبارة أخرى: كان درس قمع السوريين الذي أراد تقديمه أقسى من أن يُحتمل.

لبنانياً، كان من السذاجة أن يُنتظر من الحزب الذي خرج لقمع السوريين أن ينصاع للتركيبة اللبنانية التقليدية. في الواقع راهن لبنانيون كثر على أن حزب الله يستطيع أن يفعل في سوريا ما لا يستطيع فعله في لبنان، بل راهنت نخب سياسية على ورطة الحزب في سوريا التي ستجعله أضعف في لبنان. رغم إصرار الأمين العام لحزب الله على اعتبار معركته واحدة في سوريا ولبنان، كنا نرى من النخب خطاباً مطْمئناً إلى أن أدواته في لبنان ستبقى محكومة بالتقاليد اللبنانية، وعندما كانت تتزايد استعراضات القوة الداخلية للحزب كنا نقرأ تحليلات من قبيل أن فائض القوة هذا مؤقت بسبب حرب الحزب في سوريا، ومن قبيل التحذير من استفزاز الحزب وهو ينجز مهمته السورية.

لا يكفي القول أن الوقائع أثبتت خطأ التعويل على خصوصية لبنانية، والأقرب إلى الصواب أن تلك الفرضيات لا تحتمل الصحة أصلاً. السلوك المعتاد لأنظمة من نوع حكم الملالي أو حكم الأسد هو تجريب مزيد من القمع عندما لا ينفع المنسوب السابق، واستخدام القمع الاستباقي وسيلة لترهيب كل من يفكر في الاعتراض لاحقاً. لم يقتصر حزب الله على مخاطبة خصومه بـ"إياكم والتفكير بالاستفادة من فرصة الثورة السورية"، لقد تولى منع التفكير بتقسيمٍ للسلطة يهمش خصومه أكثر من قبل. واهم من ظن أن ذلك عابر، وواهم أيضاً من سمع خطابات الكراهية ضد السوريين، وشاهد التنكيل بهم في أرضهم ثم التنكيل باللاجئين ظاناً أنه بمنأى عما يتعرضون له. لسنا نحن من يقول هذا، إنه ما واظبت سلطة الأمر الواقع على إفهامه للجميع.

في أحسن حالاته، تأخر نظام الوصاية الإيراني طويلاً حتى قرر تنحية نوري المالكي في العراق، بعد انتفاضات شعبية ومطالب دولية عديدة. إلا أن تنحية الوجه القبيح للسيطرة الإيرانية لم تؤشر إلى تغيير يذكر فيها، حيث يشغل الواجهة فاسدون صغار، بينما تتولى طهران مباشرة القرار السيادي والأمني. مع تنحية المالكي أتى تعويم الحشد الشعبي كقوة إضافية تابعة لطهران، ارتباط إنشائه بالحرب على داعش ينبغي ألا يحجب النهج المفضّل لحكم الملالي بإنشاء ميليشيات تأكل من الدولة ووظائفها، وتضمن تنفيذ المهام القذرة من دون الالتزامات التي تترتب على السلطة الرسمية عادة. 

هتافات المتظاهرين العراقيين المناوئة بشدة لطهران، وعدم صدورها عن لون طائفي واحد، أفضل دليل على تغوّل نظام الوصاية واستحكامه منذ انسحاب القوات الأمريكية. القضاء على "انتفاضة السنة" عام 2013، وإغراقها بالداعشيين الذين هربوا من السجن بسهولة، مسلسلٌ أدى أغراضه القمعية العامة مؤقتاً. الانتفاضة الحالية تُظهر أن قمع طائفة لا يعود بالنفع على طائفة أخرى، والشعارات التي تحمل جرح الكرامة العراقي هي رد على إمعان حكام طهران في إرهاب ما يرونه حديقة خلفية لهم. ثمة مؤشر إضافي جدير بالانتباه؛ نحن لا نعرف الكثير عن الصندوق الأسود العراقي، وهذا دليل على نوعية وفظاعة نظام السيطرة عليه.

بسبب نظام الوصاية الإيراني المشترك، يرى سوريون في نجاح العراقيين واللبنانيين مكسباً لهم. هذا اعتبار وجيه بالتأكيد، إنما لا بأس أيضاً في الانتباه إلى تقدم انتفاضتي لبنان والعراق على الوضع السوري لظروف لم يمتلك السوري زمامها. في العراق، نحن نتحدث عن انتفاضة بعد عقد ونصف من إسقاط نظام صدام حسين، ورغم كل ما يمكن قوله عن التطورات العراقية اللاحقة فإن اسقاط الأسدية عتبة لم يُتح لثورة السوريين تجاوزها ليفكروا في تجاوز ما بعدها. اللبنانيون كانوا سبّاقين في اختبار نظام المحاصصة، النظام الذي يندر أن تراه عادلاً كل الفئات المشمولة به، وعلى ذلك اختبروا الحرب الأهلية، وفي أحسن الأوقات اختبروا هامشاً واسعاً جداً من الحريات مع ديموقراطية أقل. في المحصلة، يتنامى اليوم في ساحات وشوارع لبنان عدد الذين يرون العلة على مستويين، نظام الوصاية بفرعه الداخلي، والنظام اللبناني نفسه العاجز سوى عن إنتاج الأزمات والكوارث.

الدرسان اللبناني والعراقي ينبغي أن يمثلا أمام القوى التي تريد الاستقرار للمنطقة، وتحديداً بعض القوى الفاعلة بالشأن السوري، لأن استلهام واحد من النموذجين "أو خليط منهما" للحل في سوريا سيؤدي إلى انسداد الأفق نفسه. في الواقع كنا قد سمعنا تصريحات روسية تنظر إلى السوريين بوصفهم جماعات لا شعباً، والتجربة العراقية الحالية هي ابنة تصور أمريكي مماثل. على الدرجة نفسها من الأهمية أو تزيد، من المفيد أن يفكر السوريون أنفسهم في مسار التجربتين ومآلهما. 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024