عن خلافات السلطة على "الدولة المجوّفة"

نجيب جورج عوض

الأحد 2020/06/14
نشهد هذه الأيام مسرحيات انشقاقية في أجسام السلطات الحاكمة في كل من سوريا ولبنان على حد سواء. ففي لبنان، اندلعت الخلافات في داخل التيار المسيحي العوني الحاكم بين صهري الرئيس، الصهر الذي يحكم لبنان واقعياً وكأنه رئيسها منذ الآن، والصهر الذي يطمح ليقدم نفسه بصورة ابن الشعب وجيشه والحريص على ثورته وآلامه والمحارب الفساد ومحسوبيات وهيمنات الصهر الآخر.
أما في سوريا، فقد التهى الفضاء الافتراضي بالحرب الشعواء الإلغائية التي شنها سفاح دمشق وزوجته على ابن الخال، زعيم مافيا اللصوصية والفساد المالي والاقتصادي، في مزرعة الأسد السورية. وراحت منابر الافتراض تضج بمواعظ وبكائيات رامي مخلوف الكربلائية ومحاضراته عن العفة والشرف والعدل ونظافة الكف وسواها. وطبعاً راحت العديد من الأصوات والأقلام تتحدث أمامنا عن بوادر انهيارات وتداعيات وشيكة قريبة أو بعيدة المدى في بنية النظامين الحاكمين في البلدين الشقيقين (عنوة أو توقاً) وأن هناك رغبة دولية بتفكيك النظامين المذكورين والتهيئة لخلق أنظمة جديدة في كل من سوريا ولبنان بتوافقات وحسابات جديدة.

اختلف في الرأي حول مسرحيتي الصراع ضمن منظومات الحكم اللتين نشهد فصولهما الهزيلة والسخيفة في كل من سوريا ولبنان. لا أقرأ في تلك المسرحيات أي تغيير سياسي جدي حقيقي يمس حالة البلدين المتجاورين ويشير إلى تبدل موضعي وبنيوي يخدم شعبي البلدين. تلك المسرحيتان هما تمظهر جديد ومتجدد لحالة "الدولة المجوفة" (على وزن الطبل الأجوف) التي تعيش فيها كل من سوريا ولبنان وبسيناريو واحد ومتشابه في الاستراتيجيا والمضمون والمقاربة، وإن كانت نسخ السيناريو تختلف ببعض المتفارقات الشكلية المتعلقة بالتطبيق. في كل من سوريا ولبنان، لا يوجد دولة حقيقية أو حالة سيادة وحكم دولتية بالمعنى السياسي المفاهيمي لكلمة "دولة". في سوريا، هناك حزب البعث في نسخته الأسدية التي جوفت حالة الدولة السورية منذ وصول الأسد الأب إلى السلطة وحولت سوريا إلى جمهورية "على الورق"، في النصوص، في المواثيق، ليس إلا وليس أكثر. لا جمهورية ولا دولة في الواقع المعاش السياسي والوطني الفعلي. نفس الأمر حدث في لبنان منذ مطلع الثمانينات. فهناك حزب ديني مسلح ومافيوزي ترهيبي شيعي انضم له حالياً حزب طائفي عنصري شوفيني فاسد مسيحي. كلاهما ينمذج حالة حزب البعث بنسخة ملبننة. وكلاهما أيضاً جوّف الدولة تمامأً وحولها إلى جمهورية من ورق.

نعم، في كلا البلدين لم يستبدل لا حزب البعث ولا حزب الله-التيار العوني الدولة بذاته. لم يقم أي منهما بإعلان نهاية الدولة وتحويلها إلى حالة "اللا-دولة" كلاهما فعل ماهو أخطر بكثير جداً من ذلك: كلاهما جوّفَ الدولة. ظهرت كل من حالتي البعثنة لتحقيق حاجة إسرائيلية بنيوية وهيغلية بامتياز لمعادل مضاد تبرر به وجودها في حالة عداء وشر مستطير ضد جوارها وتقديم ذاتها كضحية معرضة للخطر الوجودي. وبالمقابل السيمبيوتي الديالكتيكي، إسرائيل والعداء لها حاجة بنيوية ووجودية لكل من أدوات التجويف في المشهد السوري واللبناني على حد سواء: بها يبرران استراتيجية تجويف الدولة وتوريق (من ورق) الجمهورية بحجة معاداة إسرائيل والقضاء عليها، مع أن وجودهما يخدم إسرائيل، ووجود إسرائيل يخدم تلك الأدوات ويضمن  لدورها التجويفي الديمومة. وكما أن النظام المتهالك في سوريا ماضٍ في تقديم أوراق إلتماس تمديد عقد خدمته من خلال حماية تجويف الدولة، يفعل حزب الله نفس الشيء من خلال السماح لخادمه العوني بالإمعان في تجويف الدولة أيضاً.

تلك هي سياسة ملَّاك أسهم الشرق الأوسط: تحويل دول الطوق المحيطة بإسرائيل إلى "دولة جوفاء". لماذا حالة "دولة جوفاء"؟ لأن تجويف الدولة أقل كلفة على ملاك اسهم الشرق الأوسط من تدمير الدولة أو تغييرها بنيوياً. هذا هو الدرس الذي تعلمته أمريكا من حربها في العراق، حيث تم اتباع سياسة "تبديل الدولة". قاد هذا إلى أكلاف هائلة لا نهاية لها في المال والعتاد والسلاح والبشر والتي مازالت أمريكا وأوروبا تدفعها حتى اليوم. الأرخص حتماً هو "تجويف الدولة"، في هذه الحال، بأن تجعلها تفقد مقومات ومضامين وماهية الدولة بأن تزرع في صلبها عنصراً من داخل جمهور هذه الدولة يعمل على قضمها وابتلاعها لقمة بعد أخرى من داخلها. هذا بالضبط ما فعله ويفعله بعث-الأسد في سوريا وما يقوم به حزب الله والتيار العوني في عملية بعثنتهما للبنان. أما الكلفة فتدفعها شعوب البلدين من جيوبها وأرواحها: مليارات مخلوف والأسد في سوريا والمليارات المنهوبة من السلطة في لبنان.

ما نشهده من مسرحيات إعلامية عن خلافات داخل الصف الحاكم الواحد ما هو إلا فقرة الدعايات التسويقية ما بين فقرات برنامج "الدولة المجوفة" الذي نعيشه في سوريا ولبنان منذ عقود، والذي يدفعون أجرة تحقيقه من دمائنا وأرواحنا ومصيرنا ومستقبلنا وكرامتنا وإنسانيتنا. والجانب الأكثر مكراً في سياسة "الدولة الجوفاء" المتبعة في سوريا ولبنان أنَّ أدوات تنفيذها في كلا البلدين هم الجماعات الأقل عددياً في المجموع العام لأبناء وبنات الجمهوريتين المزعومتين. خيار ماكر وشرير بامتياز يسمم المناخ العام الوجودي في المنطقة ولا يترك الجمهورية أرضاً محروقة والدولة طبلاً أجوفاً فقط، بل ويحول فضاء العيش المواطني والشعبي إلى فضاء قاتل يعج بكافة أنواع السموم الطائفية والأقلوية والتقسيمية. لا تغيير للدولة في سوريا ولبنان. ما يتم اتباعه بدلاً عن التغيير هو سياسة التجويف. وفي قلب سياسة "الدولة المجوفة" لا معنى أصلاً للتبديل أو التغيير، فما يُعتقد أنه يجب تغييره لم يعد موجوداً فعلياً كي تغيره: هو هيكل خارجي ورقي يتمايل في الريح أو طبل عالي الضجيج فقط وليس إلا.    
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024