الدكتاتورية والحسد

أحمد عمر

السبت 2020/01/04
نُشر قبل فترة منشور على صفحة فيصل القاسم، وصفحته مجلة، يقول: إنَّ الانسان المعاصر أسعد من أكاسرة الفرس وقياصرة الروم وخلفاء بني العباس وأباطرة الصين، فهو يسافر بالطائرة، ويأكل سبعين نوعاً من البيتزا، ويخاطب من يريد في أقاصي الأرض في بلورة الهاتف النقال السحرية، ويتمتع بجمال شارون ستون، وحُسن غادة بشور، ورقة إيناس الدغيدي.. وهو منشور لا بأس به، وفيه صِحة، وطرفة، والطرفة حتى تكون كذلك لا بد أن تجانب المنطق أو العرف أو العقل، فالمنشور يسقط من حسابه الزمن والتناسب والحال، فحتى يكون المواطن المعاصر سعيداً يجب أن يقارَن بهؤلاء الملوك السعداء؛ عبد الفتاح السيسي، الذي باع مصر بالجملة والمفرق والفكّة، والرئيس بشار الأسد الذي أحرق بلاداً هي من أغنى بلاد العالم بالحجر والبشر والثمر، وهو يضحك ويرتع ويلعب ويأكل الكاجو، وخليفة حفتر الذي يعامل معاملة الرؤساء في عواصم الثورة المضادة، وليس بالنجاشي المسكين، وسابور ذو الأكتاف. كما أنَّ الإنسان الذي عاش في العصور السالفة لم يعانِ من كل هذه المخابرات، والرقابة، والأطعمة المهندسة وراثياً، وأشعة الهواتف والشاشات الضارة، والمراهم والأدوية المؤذية، وشريف شحادة، وأحمد موسى، وغيرهما. وكان يستمتع بالسماء ونجومها، ويتنشق الهواء النقي.

 لو خيّرتَ مواطناً عربياً بين العيش في دولة أجنبية، لا تشرق فيها الشمس، وليس فيها خبز مرقوق، ولا ياسمين أو نخيل، والعودة إلى بلده عزيزاً كريماً من غير مخابرات وعنصرية وطائفية وأحكام عرفية وقانون طوارئ، لفضَّل العودة إلى الوطن، فالمرء يحنُّ أبداً إلى أول منزل، والأسباب كثيرة، يمكن إجمالها بتعبير شهير للحكيم والفيلسوف عبد الفتاح السيسي هو أنَّ "الوطن حضن"، وهي عبارة شائعة في الإعلام الدكتاتوري في سوريا أيضاً، فهي إذا حكمة شعبية، لكن هناك سبباً آخر وهو من أهم الأسباب.

 المواطن النازح لديه بيت دافئ، وحقوقه محفوظة عموماً في مرافئ النزوح، وهو يأكل سبعين نوعاً من الخبز، ويكسر الجوز بكسارة الجوز الرحيمة، ويستمتع بجمال بنات بني الأصفر، ويأكل ما لذَّ وطاب، ويعيش أفضل من نيرون وكاليغولا منعماً بالدفء في البرد، لكنّه يفضّل أنّ يعود ويعيش في بيت ليس فيه سوى غرفة واحدة صالحة للعيش، وأن تكون لديه سيارة من موديل ألف وتسعمائة وخشبة وخمسة أعواد، على حساب الدولة الغانمة، أُجريتْ لها مئات العمليات الجراحية لدى الميكانيكي، ويمُّر به الجيران كَلْمَى هَزيمَةً، ووجهه وضاح وثغره باسم ، بنظرات الحسد في عيونهم على امتلاكه السيارة البائدة، فالحسد أقلُّ في الغرب، بسبب  فضيلة العولمة، ولها فضائل، وفرص العمل الكثيرة، وحقوق العمال، وانخفاض معدل التمييز العرقي والطائفي في المعامل والشركات، أو درجته. الحسد هو بين الشركات، أو بين الطبقات والأحزاب، وهو أكثر بين الزعماء مثل شماتة نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب بترامب.

الحسد يزداد عند الجدب وينقص عند الرخاء. الأوربيون يتجنبون ذكر أجورهم وهي من الأسرار، أما نحن، فنفاخر بدرهم زائد أو وجبة فيها لحم، لإثارة الحسد والضغينة، ونتباهى بقريب لنا يعيش في أمريكا!

 انظر إلى بشار الأسد وعبد الفتاح السيسي، وحفتر، الذي قلنا إنَّه يعامل معاملة الرؤساء؛ بلادهم كسيحة، لكنهم يمشون على سجاد أحمر، ويضحكون بسبب استمتاعهم بحسد أقرانهم، وحقد شعوبهم، أما حرسهم والمحيطون بهم، فهم أحرص على صيانة الطغيان من حرص الطغاة أنفسهم. 

وإنَّ علة وجودنا الأول والأخير هو الحسد، والحسد له وجهان، مثل كل شيء، فالحسد هو الذي أخرج آدم من الجنة، وهو أول الأمراض التي أصابت بني آدم، لكن له وجهاً آخر، وفيه متعة كبيرة، وهو ما نراه في صورة الجنود الذين يقذفون بالبراميل على المدن والقرى السورية وهم يضحكون وينتشون وطعامهم طعام الزهّاد والصوفية، خبز مع بطاطا، خبز مع حلاوة، خبز مع خبز ...  فهم يعيشون بالحسد، وقديماً قال الشاعر: 

إنّي نشأت وحسّادي ذوو عدد / يا ذا المعارج لا تنقص لهم عددا

  وهناك طرفة شهيرة عن حاسد ومحسود محكوم عليهما بالإعدام، وقد سأل الجلاد عن رغبة المحكوم الأخيرة، فقال الأول إنه يريد تدخين سيكاره قبل الموت، ولما سُئل الثاني قال: رغبتي أن يُحرم زميلي من تدخين السيكارة. يفضّل الرئيس العربي أن يعيش أعور بين شعب من العميان، من أن يكون مبصراً بين المبصرين.

ورأينا في لوحة تلفزيونية سورية شهيرة مواطناً يقبّل حذاء مسؤول كبير كي يساعده على الانتقام من خصمه، فيطالبه المسؤول بأن يعتَّز بنفسه ويحافظ على كرامته، فيقول المواطن بأنه ما ذلَّ نفسه إلا لاستعادة كرامته المهدورة، خصومة تلك الحكاية هي بين شخصين، أما خصومتنا فهي بين رئيس وشعب، وبين أبناء الرعية وبعضهم البعض.

 وردّاً على منشور النعمة التي لا نراها: إنَّ سبارتاكوس وعنترة بن شداد المستعبدَين كانا أسعد منا، فعبوديتنا معاصرة، تراقب فيها الكاميرا كل شيء، ولا أحد يقول لنا: كرَّ وأنت حر، أما الحلب والصر الذي كان عنترة يقوم بهما فهو يمتد لدى عنترة المعاصر إلى ثماني ساعات في أماكن مغلقة، وكان عنترة يحلب الإبل في الهواء الطلق، وتعلق أشعاره على الكعبة، أما شعرنا الحديث وجلُّ الناس تكتبه فهو يعلق على حيطان فيسبوك وتنسى بعد ساعة أو تموت من فورها.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024