قدمُ مارادونا ورؤوسهم

عمر قدور

السبت 2020/11/28
رحل مارادونا، رحل المثال السيء الذي واظب على الاستدلال به مثقفون عرب، وربما مثقفون سوريون على نحو خاص. رحل النجم، ونجوميته تحديداً كانت مثار غيظ أولئك المثقفين، إذ قُدّر لهم أن يعايشوا صعود ذلك الولد بقدمه، قبل استعانته بيده لتسجيل ذلك الهدف الشهير في مرمى إنكلترا، وكان صعوداً مذهلاً بمقاييس حقبته "حقبة الثمانينات"، فأتيح له ما لم يُتح حتى لنجوم سابقين في عالم الكرة، من أمثال بيليه أو بوشكاش أو بيكنباور أو كرويف. 

بالمقارنة من أسلافه من نجوم الكرة، كان مارادونا أول نجم يحظى بشعبية واسعة عربياً لدى الأجيال الناشئة آنذاك. هو أول نجم بالألوان، بعد شيوع التلفزيونات الملونة وانقراض نظيرتها التي بالأسود والأبيض، فرغم أن أول بث تلفزيوني عالمي ملون كان في منتصف الستينات إلا أن شيوعه عربياً أتى مع نهاية السبعينات، لتبدأ ببطء مواكبته بتغيير التلفزيونات المنزلية القديمة في زمن لم يكن يشهد التسارع التكنولوجي الذي سنراه لاحقاً. حتى نجومية المنتخب البرازيلي في كأس العالم1982 لم تكن لتقارَن بالنجم الصاعد، فتلك كانت نجومية جماعية يمكن التساهل معها ولو على مضض!

التقط نادي برشلونة مبكراً النجم الصاعد ليشتريه بمبلغ خمسة ملايين جنيه إسترليني، كانت تلك أضخم صفقة شراء لاعب، ليحطمها مارادونا نفسه بزيادة مليوني جنيه إسترليني بعد سنتين عندما انتقل إلى نادي نابولي صيف1984. كانت موجة الاستثمار في كرة القدم تدشن أيضاً مرحلة جديدة، بدا ذلك واضحاً في الدوري الإيطالي ومساهمة البنوك بإقراضها الأندية مبالغ تُعدّ طائلة، والاستثمار بطبيعته يتطلب مهارة تسويقية وصناعة نجوم يحققون مردوداً عالياً. هذا المسار كان أيضاً مثار غيظ مثقفين يرون مغالاة في التركيز على الأقدام التي تركل الكرات، أمام جمهور تنطلي عليه لعبة استغفاله؛ مالياً بدفعه ثمن النجوم الجدد، وذهنياً بتسطيح عقله المدفوع إلى الهوس بمجرد كرة لا قيمة فكرية لها. 

وفق نسبة لا يُستهان بها من المثقفين العرب، العاملين منهم في حقل الإعلام خاصة، كان الذي يحدث خطيراً جداً، أو بمثابة جريمة كبرى مثالها القيمي الصارخ هو إعلاء القدم على الرأس. فنجوم اليوم والغد هم أشخاص وهبتهم الطبيعة أقداماً مميزة، ولم يبذلوا الجهد الذي يبذله المثقف للـ"ارتقاء" بعقله وتفكيره، ثم ممارسة دوره في توعية من حوله. بالطبع كان لأنصار نظرية المؤامرة ركنهم المحجوز مع كل ظاهرة، إذ لا بد من وجود قوى شيطانية تريد الانقضاض على الرأس، على العقل وأنواره، بواسطة مارادونا وأمثاله من النجوم الجدد. 

نُشرت مقالات كثيرة في الصحف والمجالات يشكو أصحابها من مظلومية المثقف بالمقارنة مع نجومية مارادونا وغيره من اللاعبين، والتعبير عن المظلومية يبدو في مصاف البديهيات، إذ لا يمكن لعاقل أن يضع قدم مارادونا في الميزان نفسه مع رؤوسهم، على الأقل ضمن ثقافة طبقية للجسد، ثقافة تعلي من شأن الرأس وتحتقر الأقدام، أو تحتقر الجزء السفلي برمته وهي تقسم الجسد إلى علوي وسفلي. لذا، لم تكن نادرة على صعيد متصل المقالات التي تُبرز رأس المثقف المظلوم بدلالة خصر راقصة تنال من الشهرة ما لا يحلم به أمثاله.

في جعبة المثقف لائحة طويلة جداً بأسماء كتّاب كبار ماتوا مهملين، أو عاشوا فقراً مدقعاً، وفي عالم أكثر إنصافاً كان يجب أن ينالوا الاهتمام والسخاء اللذين يُنفقان ببذخ على مارادونا. يتحاشى مثقفونا عادة المقارنات المباشرة المتعلقة بالمال، فرأس المثقف لا يُقدّر بثمن على غرار قدم مارادونا أو خصر راقصة ما، ومن المعيب أن يطلّ التشكي المالي مباشرة ضمن ثقافة عامة كانت تنكر على المثقف الكسب من موهبته، بل قد تصنفه قلَماً مأجوراً أو مرتزقاً وهي أوصاف لم تخرج من التداول حتى الآن. لكننا نستطيع "خلف ادعاء التعفف والزهد" فهْم الحسد الذي يرى أصحابها نجوماً في الرياضة يتقاضون "ما لا يستحقون" من أموال، وإغفال نجوم غربيين في الكتابة والصحافة يتقاضون مبالغ تعتبر طائلة بمقاييسنا.

قبل احتدام ظاهرة مارادونا، لم ينج الجمهور العربي من التقريع لمتابعته مونديال1982، فهو قد انطلت عليه اللعبة الإسرائيلية في اختيار توقيت اجتياح لبنان مع انشغال العالم بالمونديال. هكذا راحت الجماهير تتابع سحر المنتخب البرازيلي بينما تُحاصَر بيروت ويُقضى على المقاومة الفلسطينية فيها، ولعله أبلغ مثال على دور الكرة في تغييب العقول كما تفعل المخدرات. مع عداوتهم للكرة، نسي أصحاب تلك المقولات الموبِّخة أن تلك الجماهير على الأقل محرومة من الفعالية السياسية بفضل الأنظمة القمعية، وتأنيبها يشبه تأنيب سجناء أتيحت لهم متعة الفرجة على برنامج ترفيهي في التلفزيون. 

سيجمع مارادونا النقائص من أطرافها، فهو النجم الصادم بموجب معاييرنا السائدة أيام صعوده. إنه يتعاطى المخدرات مثلما لا تهمه سمعة اللعب النظيف عندما يقاتل من أجل الكرة في الملعب، ولا يرى غضاضة في الاحتيال بتسجيل هدف بيده. إنه أيضاً سيقيم حفل زفافه بحضور طفلتيه اللتين أنجبهما قبل الزفاف، فضلاً عما أشيع عن إنكاره العديد من حالات الأبوة التي ثبتت منها واحدة في القضاء ثم اعترف بها لاحقاً. هو ليس بالقدوة بحسب الصورة التقليدية عما يجب أن يكون عليه النجم الذي قد يقلّده أتباع كثر، ولا بد أن يتسرّب شيء من سلوكه ليغير في قناعات محبيه. ربما، على سبيل المثال، لم يعد بعض معجبي مارادونا ينظر بسلبية مفرطة إلى تعاطي المخدرات، وربما تغاضى البعض الآخر عن إنجابه خارج الزواج الأمر الذي كان يصعب عليه غفرانه لأحد آخر. 

أعداء مارادونا في ديارنا كانوا متعددي المشارب الأيديولوجية، هم متنوعون بين يساريين وقوميين وإسلاميين. اتفاقهم على مارادونا، رغم اختلافهم في السياسة، يكشف نوعية الثقافة السائدة بصرف النظر عن التباين الأيديولوجي. فنحن مثلاً أمام ثقافة واحدة تراتبية في النظر إلى الجسد، وهذه التراتبية تنسحب على المباهج العامة التي تتولاها أعضاء من الجسد بشكل رئيسي. كرة "الأقدام التي في الأسفل" هي للرعاع، والرقص مرذول بعمومه مع التصويب على هز الخصر والبطن بوصفه فعلاً مبتذلاً لا فناً. قد يختلف اليساري والإسلامي في موضوع الجنس بلا عقد زواج، لكن الإنجاب بلا عقد لم يكن مطروحاً أصلاً، أما ما لم يكن يغفره الاثنان فهو تعدد العلاقات المرفوض وفق التصور اليساري للعفة، والمرفوض بلا عقد لدى الإسلامي. 

الخلطة القومية، وهي تحتضر آنذاك، كانت تنوس بين فلول اليسار وتباشير الإسلام السياسي الصاعد، وهي مثل نظيريها اليساري والإسلامي تغلّب أهدافاً عظمى "غير قابلة للتنفيذ" على العيش الواقعي "المبتذل". وفق الأيديولوجيات الثلاث، كانت المباهج عموماً مرذولة، وكانت المتع أشبه بالإثم. ذلك ما كان يقيم عميقاً في رؤوس مثقفين يتشكون من نجوم خطرين، بالضبط لأنهم يقدّمون المتعة بصرف النظر عن تلك التراتبيات، متعة الأقدام والسيقان والخصور والبطون...إلخ، غير المجندة في مؤامرة على الرأس، إلا أنها تنقض العقلية الراسخة فيه، وتنقض ما هو أحادي في التعدد الظاهري لأيديولوجياته؛ الأحادي الذي ينبذ تعدد المتع وتعدد مصادرها، وينبذ خفيةً الحق في الحصول على المتعة.

من بين كلمات الرثاء التي قيلت لمناسبة رحيل مارادونا، سُلطت الأضواء على كلمة بابا الفاتيكان التي وصف بها الراحل بـ"شاعر كرة القدم". كأنما كان ينبغي العثور على وصف لترقية قدم اللاعب الفذ لتصير رأساً، وكأنما يستأنف البابا تلك الثقافة التي تضع الشِعر على "رأس" الفنون. ربما كان هذا الوصف سيُضحك مارادونا كثيراً، وربما يُضحك الآن البعض من محبيه الذين لا يبحثون عن الشعر في كرة القدم، أو لا يستهويهم الشعر على الإطلاق. 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024