الإصلاح من ورائكم

محمد خير

الإثنين 2019/08/26
قد يظن المرء أنه إذا امتلك قدراً كافياً من المال، سيستطيع الهرب من إجراءات "الإصلاح الاقتصادي"، لو أودع نقوده بفائدة جيدة في البنك، متفرجاً على صراعات المجتمع من مقاعد الجمهور. لكن قرار البنك المركزي المصري الأخير يثبت خطأ هذه الفرضية، ويجبر صاحبها على "النزول إلى الملعب".

فعطفاً على "المؤشرات الإيجابية للاقتصاد المصري"، وتفاعلاً مع "تراجع التضخم خلال الشهرين الماضيين"، اتخذ البنك المركزي المصري قراره الحاسم، الخميس الماضي، بخفض سعر الفائدة على الإيداع والاقتراض. وبعد ساعة واحدة من القرار، سارعت البنوك الحكومية الكبرى، الأهلي ومصر والقاهرة، إلى التنفيذ، بينما بدأت اللجان المتخصصة في البنوك الخاصة اجتماعاتها، الأحد، لدراسة نسبة خفض الفائدة على "شهادات الادخار ذات العائد الثابت وحسابات التوفير والودائع" و"جميع برامج القروض الشخصية".

ينبغي القول هنا إن معدل الفائدة على الودائع، كما على الإقراض، كان مرتفعاً بالفعل، ووصل قبل التخفيض إلى 15.75% للإيداع، و16.75% للإقراض، ليصل بعد الخفض الأخير، إلى 14.25% للإيداع، و15.25 للإقراض. وهذا المعدل المرتفع يعني، في كلمتين، إن الناس سيفضلون الاحتفاظ بمدخراتهم في البنوك، بدلاً من إنفاقها في السوق، مما ينعكس في زيادة الركود. والأمر نفسه ينسحب على المستثمرين، الذين يحجمون عن الاقتراض بتلك الفائدة المرتفعة، والتي قد تتخطى معدل الربح المنتظر من استثماراتهم، بل قد يفضل بعضهم أن يتصرف تماماً كصغار المودعين، ويحتفظ بأمواله في البنك للاستفادة من سعر الفائدة.

بهذا المعنى، فإن قرار خفض سعر الفائدة، طبقاً للرؤى الاقتصادية البحتة، التي تنظر إلى الاقتصاد كمعادلة حسابية، لا كإجراءات عمادها بشر من لحم ودم، هو قرار "سليم"، طالما لم يُوضع القرار في سياقه، أي بوصفه الثاني من نوعه خلال ستة أشهر، مع توقع المزيد خلال الفترة المقبلة، طبقاً لسياسة "التيسير النقدي" المزمعة، وكونه يأتي بعد أقل من شهر على قرار زيادة أسعار الوقود والمحروقات (وهي الزيادة الخامسة خلال 5 سنوات)، فضلاً عن كافة الإجراءات التي فرضتها شروط صندوق النقد وخدمة فوائد الديون، وعلى رأسها بالطبع تعويم الجنيه المصري وزيادة الضرائب.

في ضوء ذلك كله، يبدو قرار خفض الفائدة كأنه اقتحام لحصن أخير يحتمي داخله المواطن الذي تتبخر قيمة مدخراته بسبب "الإصلاحات" المتوالية، ولم يكن يعصمه –بعض الشيء- من فقدان "تحويشة العمر" نهائياً، إلا ارتفاع سعر الفائدة الذي يتقاضاه مقابل حفظها في البنك. وبحِسبة بسيطة، يبقى المواطن في أمان نسبي، طالما ظلت الفوائد التي يتقاضاها على مدخراته أعلى بنسبة معقولة من مستوى التضخم. ولئن كانت قرارات الفائدة تصدر من جهة واحدة وبإجراءات محددة، فإن التضخم مراوغ، ولا يمكن حسابه بدقة ولا توقع تقلباته، وهو لا يسكن الاقتصاد الرسمي فقط، بل غير الرسمي كذلك، ويصيب حتى "الإكرامية" و"حق الشاي".

في النقاشات حول تحريم وتحليل فوائد البنوك، ظلت إحدى أهم الحجج ضد التحريم، هي أن وديعة البنك ذات الفائدة، هي الوسيلة الكريمة لحفظ مال من لا يجيد التجارة، أي في الحقيقة معظم الناس. وبالنظر إلى مسألة الكرامة نفسها، فإن حوالى 5 ملايين مصري هبطوا إلى ما تحت خط الفقر في الفترة ما بين 2016 و2018، وهي الفترة نفسها التي تلقت فيها مصر قرض صندوق النقد الدولي، وامتثلت لتعليماته و"نجحت" في تطبيقها.

يقول المثل الشعبي المصري "خبطتين في الراس توجع"، وقد تلقى المصريون عشرات "الخبطات" استطاع أن يبررها جميعاً خبراء الاقتصاد.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024