الجيش المصري كمؤشر إقتصادي

مهند الحاج علي

الإثنين 2019/12/02
منذ صعود الجنرال عبد الفتاح السيسي إلى السلطة اثر انقلاب عسكري عام 2013، والجيش المصري يوالي صعوده في سلم الاقتصاد، حتى بات اليوم شريكاً في شتى المجالات، من الإنتاج الغذائي والإلكترونيات، والمشاريع العقارية الكبرى، إلى التنقيب عن الذهب وإدارة الأوقاف الدينية والحج. حتى في الإستيراد، للجيش دور يتسع بخطى ثابتة.
 

ذاك أن الجيش المصري يُزاحم القطاع الخاص مباشرة عبر استثمار التصنيع الحربي في قطاعات مدنية، وبشكل غير مباشر عبر باقة من الجنرالات المتقاعدين ممن دخلوا عالم الأعمال أو تبوأوا مناصب في مؤسسات الدولة (المدنية)، وفقاً لتقرير جديد مفصّل عن اقتصاد الجيش المصري نشره الباحث الرئيسي في مركز كارنيغي للشرق الأوسط يزيد صايغ.

والواقع أن هذا الدور العسكري لا يقتصر على مصر، بل بات على سبيل المثال إحدى سمات النظام الإيراني حيث يلعب الحرس الثوري دوراً اقتصادياً بارزاً يجعله في غنى عن موازنات السلطة السياسية وأموالها ووعودها، وأيضاً يُعيق نمو القطاع الخاص وقدرته على التنافس في الخارج. لكن النموذج المصري يبدو وفقاً للتقرير أكثر تميزاً في كونه يستقطب استثمارات الدولة ومواردها في تنمية قطاعات انتاجية جديدة، بعيداً عن حسابات الربح والخسارة.

المفيد في الدراسة الجديدة أنها وضعت خريطة مُفصّلة لدور العسكر في الاقتصاد المصري واتساعه خلال ست سنوات من عهد الرئيس السيسي. ورغم أن الشق الأول يتناول دور قطاع الصناعات الحربية المصرية في الإنتاج والاستهلاك المحلي المحلي، يُركز أحد الفصول الرئيسية على نشاط غير منظور غالباً، أي الجنرالات المتقاعدين ممن دخلوا القطاع الخاص والوزارات (كمستشارين أو مسؤولين) واستفادوا من علاقاتهم العسكرية والمؤسساتية للحصول على استثمارات حكومية. وهذه كتلة بشرية اقتصادية خارج نطاق المحاسبة، وتأكل من حصة القطاع الخاص الأكثر ميلاً لاحترام قواعد اللعبة التنافسية في السوق.

في الشق الرسمي، تضطلع كل من وزارة الإنتاج الحربي و"الهيئة العربية للتصنيع"، بدور في قطاعات صناعية مدنية واسعة مثل الخشب والحديد والالكترونيات. ولكل من هاتين المؤسستين هيكل يُدير مجموعات صناعية كبرى بأسماء متعددة مثل بنها للصناعات الإلكترونية وأبو زعبل للأسمدة والمواد الكيمائية والشركة الوطنية للأدوية.

الإشكالية هنا أن الدولة تُروج دوراً وهمياً للجيش في إدارة الإنتاج وتوفير الخدمات للمدنيين، على أساس الفاعلية القصوى وتأمين الربح. لكن التدقيق في أرقام الاستثمار في هذه الصناعات يُظهر أنها مؤسسات مُكلفة لخزينة الدولة، وغير خاضعة لحسابات الربح والخسارة، لا بل إن هناك تلاعباً في الإعلانات المالية. على سبيل المثال لا الحصر، شركة بنها للصناعات الإلكترونية التابعة لوزارة الانتاج الحربي، سجلت خسائر بنسبة 134%. باختصار، الخسارة والربح والفاعلية والتنافسية في الإنتاج، ليسوا عوامل تؤمن الاستمرارية هنا، بل التبعية للجيش تمنح المؤسسة حصانة. في القطاع الخاص، مثل هذا السلوك كان سيؤدي الى الإقفال التام أو إعادة الهيكلة لتأمين الربح.

ولمثل هذا السلوك أثر كبير على القطاع الخاص، وفرص النمو في البلاد. حتى في دول العالم الثالث النامية، يُعد القطاع الخاص، بإستقلاليته ونموه، معياراً أساسياً لقياس فاعلية مؤسسات الدولة والعملية الديموقراطية بكل مكوناتها، بما فيها وسائل الإعلام. ذاك أن الأخيرة كلما اعتمدت على القطاع الخاص (المستقل عن الطبقة السياسية)، ازدادت استقلاليتها عن عالم السياسة، وتعززت قدرتها على رقابة المسؤولين والمؤسسات الحكومية، ونقدها.

والقطاع الخاص محرك للنمو الاقتصادي، ويُوفر في الدول المتقدمة 90% من الوظائف وغالبية الاستثمارات وأكثر من 80% من مداخيل الدولة. بكلام آخر، من الصعب تخيل اقتصاد متقدم ودولة فاعلة، من دون قطاع خاص ينمو بلا هيمنة السياسيين وحاشيتهم من رجال الأعمال والصناعيين.

واستقلال القطاع الخاص عن السلطة السياسية ونموه الطبيعي يؤثران في قدرته على المنافسة في الأسواق الخارجية لجذب الاستثمارات والتصدير لاستقطاب العملات الصعبة، والنمو بقدر كاف لتنفيذ مشاريع كبرى (بنى تحتية) وامتلاك قدرات لوجستية عابرة للحدود.

في الختام، لا يُنبئ النموذج العسكري المصري سوى بالمزيد من الآثار السلبية على الاقتصاد على المدى البعيد، سيما في ظل غياب المحاسبة والشفافية وبالتالي الفاعلية والتنافس. والأسوأ من ذلك كله أن في بلادنا من يرى في هذا الدور الواسع للجيش، نموذجاً قابلاً للتعميم.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024