إبتزاز السودان بالعقوبات

مهند الحاج علي

الإثنين 2020/10/12
ليس هناك مثال أوضح على ازدواجية المعايير في سياسات الإدارة الأميركية الحالية، من السودان. هذا البلد أطاح شعبه بالدم والمثابرة، رأس النظام، وواصل ضغوطه في الشارع للحصول على حكومة انتقالية برئيس مدني. لكن النجاح بتشكيل حكومة عبد الله حمدوك، كان خطوة يتيمة على طريق طويل لمشاركة السلطة مع القادة العسكريين الذين هيمنوا على البلاد لعقود طويلة تخللتها تجارب انتقالية هشة وقصيرة. 

التحدي الأبرز، أو بالأحرى معمودية النار المطلوبة، هي النهوض بالاقتصاد السوداني من واقعه الحالي (انكماش وتضخم وبطالة مرتفعة). دون تحقيق ذلك شروط منها التمويل الدولي، والأهم رفع اسم السودان عن قائمة الدول الراعية للإرهاب من أجل فتح أسواق التمويل وتدفق الاستثمارات الخارجية اليه. 

بحسب أوساط سياسية سودانية، تربط واشنطن بين رفع السودان عن هذه القائمة، وبين اتفاق علني للتطبيع مع إسرائيل. لا مواربة هنا في المقاربة الأميركية، حتى إن حمدوك نفسه دعا في مقابلة له مع صحيفة "ذي فايننشال تايمز" إلى فصل المسارين، أي رفع اسم بلاده عن قائمة الدول الراعية للإرهاب، من جهة، ومحادثات السلام مع إسرائيل، من جهة ثانية. بكلام آخر، لا يهم واشنطن إقدام الشعب السوداني على اطاحة دكتاتور كان داعماً للإرهاب، ناهيك عن نجاح العملية الانتقالية، والتأسيس لحكم ديموقراطي. المهم بالنسبة للإدارة الأميركية هو التطبيع مع إسرائيل.

يُحسب للرئيس السوداني المخلوع عمر البشير فهمه هذه المقاربة بشكل جيد، إذ فتح قنوات سرية مع إسرائيل قبل الإطاحة به، علاوة على تعاون أمني في مجال "مكافحة الإرهاب" مع الولايات المتحدة. لا يهم إن كان البشير نفسه استقبل زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، وارتكب جرائم ضد الإنسانية في إقليم دارفور. المهم هو فعل التطبيع ذاته، والقدرة على صرفه أميركياً كإنجاز في موسم انتخابي، واسرائيلياً كفتحة جديدة في الجدار العربي المتداعي. وفصل المسارين بالنسبة لحمدوك ضروري هنا، إذ يعمل على حلحلة القضايا التي يُتهم السودان فيها، وتحديداً الاعتداءين على البارجة "يو أس أس كول" وسفارتي الولايات المتحدة في دار السلام ونيروبي.


وتصريح حمدوك كان واضحاً في نقده المقاربة الأميركية، إذ قال للصحيفة عينها إن من غير العادل مواصلة واشنطن معاقبة السودان بعد 20 عاماً على استضافة بن لادن، وإثر سنة على خلعه دكتاتوراً اتخذ القرار باستقباله. من الواضح أن القرار باستقبال زعيم "القاعدة" لم يكن سودانياً، بل اتخذه رأس نظام دكتاتوري نكل بالسودانيين وقتل منهم مئات الآلاف. بصراحة متناهية، ذكر رئيس الحكومة السودانية أن واشنطن تُعرقل مسار الانتقال الى الديموقراطية، إذ تقف عقوباتها حائلاً دون خروج السودان من عزلته الدولية. وفي ظل انهيار متواصل للعملة المحلية، وضعف مداخيل الدولة، ما زالت العملية الانتقالية، هشّة وقابلة للاهتزاز.

صحيح أن هناك ملاحظات إدارية وسياسية على الحكومة من أوساط الثورة، لكن الواضح أن دونها انزلاقاً سريعاً الى حكم العسكر، وأيضاً العنف في أنحاء البلاد وأطرافها. ذاك أن الحكومة الانتقالية نجحت في توقيع اتفاقات سلام في المحافظات للخروج من أتون الحروب المتواصلة، ومن شأن أي تراجع عن الحكم المدني، أن يخل بهذه المعاهدات، ويُعيد البلاد إلى المربع الأول.

بكلام آخر، العملية الانتقالية واتفاقات السلام في الداخل السوداني على المحك اليوم، واحتمال العودة إلى الوراء وارد، سيما أن الولايات المتحدة، وحتى اليوم، لاعب واضح في الثورة المضادة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024