هشام علام وفيرمونت:المجهولية إمرأة

شادي لويس

الأربعاء 2020/08/26
"لمعظم التاريخ، كانت المجهولية امرأة".. العبارة المنسوبة لفرجينيا وولف، يمكن فهمها على أكثر من وجه. أُرغمت النساء دائماً على الاحتجاب، في البيوت، ووراء خمار الوجه، الصمت في دور العبادة، المحو من كتب التاريخ، أن يكنّ مجهولات الاسم وبلا صوت. لكن وولف تخبرنا أيضاً بأن المجهولية كانت الطريقة الوحيدة أمام النساء حتى تُسمع أصواتهن، مثل تلك الأبيات التي تقرأها البطلة في "غرفة تخص المرء وحده" وتخمن إنها لامرأة، يجد شِعرها طريقة للنشر بإنكار اسمها. هكذا لا تبدو المجهولية مرادفاً للخرس أو الانطماس، بل النقيض، الصوت والبقاء. 


في الكشف عن واقعة الاغتصاب الجماعي في "جريمة الفيرمونت" وحملة فضح الانتهاكات الجنسية للصحافي المصري هشام علام، يظهر الدور المركزي للمجهولية في الحراك المناهض للعنف الجنسي في مصر. فالجريمة الأولى، كشف عنها حساب في "إنستغرام" بإسم Assault Police، هوية من تديره كانت مجهلة. والحملة الثانية، اعتمدت على سلسلة من الشهادات المجهلة، نشرت في مدونة "دفتر حكايات"، التي ظلت هوية إدارتها محجوبة أيضاً. لكن المجهولية، على مركزيتها، في الحملتين، اتخذت في كل منهما مساراً مختلفاً، بشكل يكشف عن إمكاناتها وحدودها.

المجهولية عنصر أساسي في ما أطلق عليه جاك دريدا، عملية "زعزعة اللغة"، تلك القدرة على الإفلات من محددات الهوية الذاتية، ومقاومة القيود البيروقراطية والقانونية، وفي ما يطلق عليه جيل دولوز "نزع الشخصنة" و"العصيان على الرصد"، وكذا في ما يدعو إليه ميشال فوكو في حواره الشهير "الفيلسوف المقنع"، حيث المجهولية بالنسبة إليه شرط أساس حتى يصبح لكلام المرء فرصة للاستماع. لكن تمرد ما بعد البنيوية على النظريات السياسية والاجتماعية المتمحورة حول الفرد، واستبدالها بالدعوة للمجهولية، لم تقابَل دائماً بالترحاب. فبعض منظري سياسات الاختلاف، من النسويات والأقليات، وجدوا في دعوات المجهولية رطانة لغوية تقترن بجهل عميق لدى مطلقيها بامتيازاتهم الفائقة، هؤلاء المُشاهرون الذين يمكنهم الاختيار بين الظهور أو الاختفاء بكل بساطة، من دون وعي بخبرة وتاريخ طويل من الإرغام على المجهولية تعرض لها المهمشون دائماً. لهؤلاء، الدعوة للمجهولية ليست سوى قبول بالقمع والانسحاق أمامه. أما مهمة المقاومة بالنسبة إليهم، فتتركز في تمكين المهمشين من المجاهرة، بوصفها تحدياً للبنى القمعية والأهم تأكيداً للذات. لم ينف هؤلاء الحق في المجهولية بالطبع، كضرورة براغماتية لحماية الناجيات، وللتحرر من المراقبة التي تتعرض لها النساء من قبل العائلة والمجتمع والدولة طوال الوقت، لكنهم نظّروا لها دائماً كملاذ أخير.

بعد وصولها تهديدات بالقتل، اضطرت صاحبة حساب ِAssault Police، أن تغلقه. فالمجهولية الرقمية لم تكن كافية لمنع المتهمين في قضية "فيرمونت" من الوصول إليها. لاحقاً ستعود إلى فتح الحساب، والإفصاح عن اسمها، نادين أشرف. فالمجاهرة هنا بدت حماية وتحدياً في آن واحد. أما جُناة "فيرمونت"، الذين هددوا بالكشف عن اسم الضحية، مستغلين بنية مجتمعية تعاقب الناجيات لا الجناة، فقد صدر أمر بإلقاء القبض عليهم أخيراً. لم تتحرك النيابة العامة سوى بعد تقدم واحدة من الضحايا ببلاغ رسمي، ما يعني إفصاحها عن هويتها أمام المؤسسة الرسمية على الأقل. لكن، ومع هذا، فقد جاء تحرك النيابة متأخراً جداً، وربما أتاح الكثير من الوقت أمام الجناة للفرار.

في الحملة ضد الصحافي هشام علام، بقيت الناجيات مجهولات الأسماء حتى الآن، وكذا القائمات على إدارة مدونة "دفتر حكايات". واستغل المتهم تلك المجهولية للتشكيك في مصداقية الشهادات، لكن تلك المجهولية هي التي وفرت الحماية للناجيات من تهديداته بمقاضاتهم بحجة تشويه سمعته. لم تتقدم أي من الناجيات ببلاغ رسمي للنيابة حتى الآن، وأصدر المجلس القومي بياناً يدعوهن إلى ذلك ويشجعهن عليه، لكن الحملة المجهّلة تلك وغير الرسمية، كانت كافية لدفع المؤسسات الصحافية التي يعمل فيها المتهم إلى تجميد علاقاتها المهنية به وفتح تحقيق في تلك الوقائع، وكذا وضع سياسات وإجراءات مؤسسية لمنع تجاوزات من هذا النوع في المستقبل، بل وحتى إعلان محامي المتهم انسحابه من تمثيله قانونياً.

في مجتمع شديد الذكورية وسلطات أمنية وقضائية لا يمكن التعويل على نزاهتها أو كفاءتها، تبدو المجهولية الخيار الوحيد أمام الناجيات في معظم الأحيان. خيار لا يمنح حماية كاملة بالضرورة، لكنه أقل مخاطرة من غيره. يهاجم المتهمون ضحاياهم من نقطة المجهولية، إما بالتهديد بكشف هوياتهم أو التشكيك في مصداقية الشهادات. ومع هذا، نجحت الحملات المجهلة بدرجات متفاوتة، إما بنبذ المتهمين اجتماعياً ومهنياً ودفع المؤسسات غير الحكومية إلى فتح تحقيقات، أو شجعت الناجيات على اتخاذ الطريق الرسمي وتقديم الشكاوى للنيابة. بل ودفعت تلك الحملات، الحكومة، مطلع الشهر الماضي، إلى الموافقة على مشروع قانون لتشجيع الناجيات على تقديم بلاغات بتقديم المزيد من الحماية عبر حجب هويات الشاكيات.

تظل المجهولية هي الأداة الأكثر فاعلية في أيدي النساء وأكثرها أماناً. سبيل واحد بين خيارات أخرى. وسيلة، لا غاية في حد ذاتها. تكتيك يهدف، في المدى الطويل، إلى نقيضه، أي المجاهرة والحق في العلنية وتمكين النساء للخروج على احتجابهم الطويل.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024